رويه الله: في ضوآ الكتاب و السنه و العقل الصريح

اشارة

سرشناسه : سبحاني تبريزي، جعفر، - 1308

عنوان و نام پديدآور : رويه الله: في ضوآ الكتاب و السنه و العقل الصريح/ تاليف جعفر السبحاني

مشخصات نشر : المثليه الولي الفقيه لشوون الحج و الزياره، معاونته شئوون التعليم و البحوث الاسلاميه في الحج، [ ]13.

مشخصات ظاهري : ص 136

فروست : (علي مائده العقيده 12)

يادداشت : عربي

موضوع : رويت الهي

شناسه افزوده : بعثه مقام معظم رهبري در امور حج و زيارت. معاونت آموزش و تحقيقات

رده بندي كنگره : BP219/س 2ر9 1300ي

رده بندي ديويي : 297/42

شماره كتابشناسي ملي : م 78-2137

ص:1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

تمهيد

اشارة

قال اللَّه تعالى:

«لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ». الأنعام/ 103

وقال تعالى وتقدّس:

«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ». الأعراف/ 143

ص:5

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد للَّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضي ءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا- ونظراً للحاجةِ المتزايدة- رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللَّهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، واللَّه الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

ص:6

ص:7

سمات العقيدة الإسلاميّة

اشارة

إنّ للعقيدة الإسلاميّة سمات نذكر منها ما يلي:

1- سهولة العقيدة:

للعقيدة الإسلامية صفات متعدّدة، منها: سهولة فهمِها وتعلّمها؛ لأنّها عقيدة شاملة لا تختص بالفلاسفة والمتكلّمين والمفكِّرين، إلّاأنّ ذلك لا يعني سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والأدلة، بعيدة عن الألغاز والابهامات، فلو فُسّرت وبُيّنت لفهمها عامة الناس حسب مستوياتهم، فهي بهذه الصفة تخالف ما تتبنّاه نصرانية اليوم والأمس، التي أحاطت بها ابهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسّر لأحد لحدّ الآن حلُ مشاكلها وألغازها، فالمسلم مثلًا إذا سئل عن عقيدته في التوحيد، وعن صفات اللَّه تعالى يقول: «هُوَ اللَّهُ أَحَد، اللَّهُ الصَمَد، لَمْ

ص:8

يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد».

وقد جاء في الأثر أنّ جماعة من أهل الكتاب سألوا النبي صلى الله عليه و آله وقالوا: إنسب لنا ربّك، فنزلت سورة التوحيد (1).

فالعقيدة الإسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جليّة المعالم، لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز، فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة مرفوع الرأس، فللعقيدة براهينها الواضحة، التي يمكن أن يقف عليها كل من درسها.

وأمّا لو سُئل النصراني عن ذلك، فإنه يتلعثم في بيان عقيدته، فتارةً يقول: إنّه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثمّ يضيف أنه لا منافاة بين كون الشي ء واحداً وكثيراً.

ومن المعلوم أنّ هذه العقيدة بهذا الابهام والاجمال لا تقبلها الطباع السليمة؛ إذ كيف تُذْعِن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ندّ، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعدّدة، فهذه العقيدة تناقض أولها آخرَها ويردّ آخرُها أوّلها، فهو سبحانه إمّا واحد لا نظير له وإمّا كثير له أمثال.

وقِسْ على ذلك سائر المواضيع في العقيدة الإسلامية وقابِلْها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، ترى تلك الصفة بنفسها في العقيدة الإسلامية ونقيضها في غيرها.

إنّ من العوامل التي ساعدت على سرعة انتشار الإسلام في مختلف الحضارات و تغلغلها بين الأوساط، اتصافها بسهولة العقيدة ويُسر التكليف.


1- الطبرسي، مجمع البيان 5: 564.

ص:9

يقول الأُستاذ الشيخ محمّد محمّد المدني:

يقول اللَّه عزّ وجلّ في حثّ العباد على التفكّر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»، «قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ»، «فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقِ»، «أُنْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنَعِهِ»، «فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا»، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا»، «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

ويقول اللَّه عزّ وجلّ في وصف نفسه واعلام المخلوقين بأنه فوق ما يعقلون أو يدركون: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ»، «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»، «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحْد»، «وَجَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنِّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٍ لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبداً بشي ء يُفصِحُ عن ذات اللَّه تعالى من حيث الحقيقة والكُنْه، وإنّما هو يُلفِتُ دائماً إلى آثار اللَّه في الخلق والتصريف (1).


1- القاهرة، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، مجلة رسالة الإسلام، العدد 49: 50- 51.

ص:10

2- الاذعان في العقيدة والتعبّد في الأحكام:

وهناك أمرٌ ثانٍ نلفت إليه نظر القارئ، وهو الفرق الواضح بين العقيدة والأحكام الشرعية العملية، فإنّ المطلوب في الأُولى هو الاعتقاد الجازم، ومن المعلوم أنّ الإذعان بشي ء متوقّف على ثبوت مقدّمات بديهية أو نظرية منتهية إليها حتى يستتبعها اليقين والاذعان، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية، فإنّ المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، ولا تتوقّف على القطع بصدورها عن الشارع، وهذا الفرق بين العقائد والأحكام يجرّنا إلى التأكّد من صحة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الأحكام، ولذلك نرى أئمة الفقه يعملون بأخبار الآحاد في مجال الأحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطعَ أو اليقينَ، وهذا بخلاف العقائد التي يُفترض فيها اطمئنان القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، فيرفضون خبر الآحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلى حدٍّ يورث العلم.

3- خضوعها للبرهان العقلي:

وهناك أمر ثالث وراء هذين الأمرين، وهو أنه لا يمكن لأيّ باحث إسلامي أن يرفض العقل ويكتفي بالنص إذا أراد أن يعتمد الأُسلوب العلمي في مجال العقيدة؛ لأنّ الأخذ بالنص متوقف على ثبوت أُصول موضوعية مسبقة تتبنّى نبوّة الرسول الأكرم وحجيّة قوله، فما لم يثبت للعالم صانع حكيم، قد بعث الأنبياء والرسل بالمعجزات

ص:11

والبيّنات لهداية الناس، لا تثبت نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وحجيّة كلامه في مجال العقيدة، ولا يمكن أن نعتمد على النصوص وسنّة الرسول في إثبات الصانع ونبوّة رسوله.

وهذا هو الذي يفرض علينا أن نستجيب للعقل، باعتباره العمود الفقري للعقائد التي يبنى عليها صَرح النبوّة المحمديّة صلى الله عليه و آله، ولذلك نرى أنّ الكتاب العزيز يثبت هذا الأصل من الأُصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدلّ على أُصول التوحيد بمنطق العقل، ويتكلّم باسم العقل ويقول:

«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (الأنبياء/ 22)، فيستدل على توحيده ونفي الآلهة المتعدّدة بقضية شرطية، وهي ترتب الفساد في حالة تعدد الآلهة.

ويقول سبحانه: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» (المؤمنون/ 91).

ويقول سبحانه: «قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (الاسراء/ 42).

فالآيات الثلاث على اختلافها في الاجمال والتفصيل تستبطن برهاناً مشرقاً خالداً على جبين الدهر.

ويقول سبحانه: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ» (الطور/ 35) فيعتمد على الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحققه بلا علّة وصانع.

كما نرى أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبيّة الأجرام

ص:12

السماوية من خلال محاجة ابراهيم الخليل عليه السلام مع عبدتها، فيستدل بالأُفول على بطلان ربوبيتها ضمن آيات، قال سبحانه: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلْيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الأنعام/ 75- 79).

فقد بلغ الخليل النهاية في مجال المعرفة على وجهٍ رأى ملكوت السماوات والأرض، فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين باللَّه سبحانه، وما ذلك إلّاليكون موقناً ومذعناً لأُصول التوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والأرض إلّابإلهامه البرهانَ الدامغ الذي أثبت به بطلان ربوبيّة الكوكب والقمر والشمس، وانتهى في آخره إلى أنّه لا إله إلّا هو، وقال بعد ذكر البراهين «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الأنعام/ 79).

فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة الإسلامية وهو أنّ الغاية من طرح الأُصول العقائدية للإذعان بها والوصول إلى اليقين، لا التعبّد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته، خصوصاً في الأُصول الأولية التي تُبنى عليها نبوّة النبي الأكرم. فمن حاول تعطيل العقل وأبعده عن ساحة البحث واكتفى بالنص، فقد لعب بورق خاسر، إذ أنّ بديهة العقل تحكم

ص:13

أنّ الاكتفاء بالسمع في عامة الأُصول مستلزم للدور، وتوقّف صحة الدليل على ثبوت المدعى وبالعكس.

إنّ رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة- من قبل بعض الفرق- صار سبباً لتغلغل العقائد الخرافية بين كثير من الطوائف الإسلامية، وفي ظلّ هذا الأصل، أي إبعاد العقل، دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدّثين والسُذَّج من الناس اغتراراً باسلامهم وصدق لهجتهم.

إنّ من مواهبه سبحانه أنه أنار مصباح العقل في كلّ قرن وزمان ليكون حصناً أمام نفوذ الخرافات والأوهام، وليميّز به الانسان الحقَ عن الباطل فيما له فيه حق القضاء، إلّاأنّ هذا لا يعني أنّ المرجع الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع، وإنّما يهدف إلى أنّ اللبنات الأولية لصرح العقيدة الإسلامية تجب أن تكون خاضعة للبرهان، ولا تناقض حكم العقل.

وعندما تثبت الأُصول الموضوعية في مجال العقيدة وتثبت في ظلها نبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، يكون كل ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله حجة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الاطمئنان بصدورها عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وقد خرجنا في هذه المقدّمة الموجزة بثلاث نتائج:

الأُولى: أنّ العقيدة الإسلامية عقيدة سهلة يمكن اعتناقها بيُسر دون تكلّف.

ص:14

الثانية: أنّ المطلوب في العقائد هو الاذعان وعقد القلب، وهذا لا يحصل إلّابعد ثبوت المقدّمات المنتهية إليه، وليس من شأن أخبار الآحاد خلق اليقين والاذعان ما لم يثبت صدورها عن مصدر الوحي على وجه القطع واليقين، بخلاف الأحكام، فإنّ المطلوب فيها هو العمل تعبّداً.

الثالثة: أنّ الأُصول التي تبنى عليها ثبوت النبوّة لا تثبت إلّابالعقل دون الشرع.

ففي ضوء هذه النتائج الثلاث ندرس فكرة رؤية اللَّه تعالى يوم القيامة التي أحدثت ضجة في الآونة الأخيرة، لكن ستقف على حقيقة الأمر بإذنه سبحانه.

ص:15

1 حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية

اشارة

لمّا انتشر الإسلام في الجزيرة العربية، ودخل الناس في الإسلام زرافاتٍ ووحدانا، لم يجد اليهود والنصارى المتواجدون فيها محيصاً إلّا الإستسلام، فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالباً إلّامن شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة.

وبما أنهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد، عمِدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاصّ، وبطريقة تعليميّة، ولما كانت السذاجة تغلب على عامة المسلمين لذا تلقوهم كعلماء ربانيين، يحملون العلم، فأخذوا ما يلقونه إليهم بقلبٍ واعٍ ونيّة صادقة، وبالتالي نشر هؤلاء في هذا الجوّ المساعد كلّ ما عندهم من القصص الإنحرافية والعقائد

ص:16

الباطلة، خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتصغير شأن الأنبياء في أنظار المسلمين، بإسناد المعاصي الموبقة إليهم، والتركيز على القدر وسيادته في الكون على كلّ شي ء، حتى على إرادة اللَّه سبحانه ومشيئته.

ولم تكن رؤية اللَّه بأقلّ مما سبق في تركيزهم عليها.

فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء، فكلّ ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى. فقد حسبها المسلمون حقائق راهنة وقصِصاً صادقة فتلقّوها بقبول حسن نشرها السلف بين الخلف، ودام الأمر على ذلك.

ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين، النهي عن تدوين حديث الرسول صلى الله عليه و آله ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية، خصوصاً من قبل الكهنة والرهبان.

فقد كان التحدّث بحديث الرسول صلى الله عليه و آله أمراً مكروهاً، بل محظوراً من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز (19- 101 ه)، بل إلى عصر المنصور العباسي (143 ه)، ولكن كان المجال للتحدّث بالأساطير من قبل هؤلاء أمراً مسموحاً به، فهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير، وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قصّ بين المسلمين واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له،

ص:17

وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان (1).

ولمّا سَمِحت الظروف لمثل هذا الكتابي أن يتحدّث بما تعلّم في حياته السابقة ومنع من أراد التحدّث بحديث الرسول، لذا كان المجال خصباً لنشر الأساطير والعقائد الخرافية.

يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديثَ متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدّة من التوراة (2).

وهذا هو المقدسي يتكلم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول: وكان فيهم من كلّ ملة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادة الأوثان في سائرهم (3).

قال ابن خلدون: انّ العرب لم يكونوا أهلَ كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شي ء ممّا تتوقّ إليه النفوس البشرية في أسباب المكوَّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهلَ الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد اللَّه بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من


1- ابن عبد البر، الاستيعاب، في هامش الاصابة؛ وابن حجر، الاصابة 1: 189؛ والجزري، أُسد الغابة 1: 215؛ والمتقي الهندي، كنز العمال 1: 281 برقم 29448.
2- الشهرستاني، الملل والنحل 1: 117.
3- المقدسي، البدء والتاريخ 4: 31.

ص:18

المنقولات عندهم وتساهلَ المفسّرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون (1).

ولو أردنا أن ننقل كلمات المحققين حول الخسارة التي أحدثها اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقالنا مع القرّاء.

ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار، حيث خدع عقولَ المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال، وقد أسلم في زمن أبي بكر وقدِمَ من اليمن في خلافة عمر، فانخدع به الصحابة وغيرهم.

قال الذهبي: العلامة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض)، وجالس أصحاب محمّد، فكان يحدّثهم عن الكتب الاسرائيلية ويحفظ عجائب،- إلى أن قال:- حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس، وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي، وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلًا، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي (2).

وعرفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم (3).


1- ابن خلدون، المقدمة: 439.
2- الذهبي، سير أعلام النبلاء 3: 489.
3- الذهبي، تذكرة الحفاظ 1: 52.

ص:19

فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية، وبذلك بثّ سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين، وقد تبعوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وقد تنبه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر لفيف من القدماء، منهم ابن كثير في تفسيره، حيث أنه بعدما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان، قال: والأقرب في مثل هذه السياقات انها متلقاة عن أهل الكتاب ممّا وجد في صحفهم، كروايات كعب ووهب- سامحهما اللَّه تعالى- في ما نقلاه إلى هذه الأُمة من أخبار بني اسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّا حُرِّف وبُدِّل وفُسِخَ، وقد أغنانا اللَّه سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ(1)»

.والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربّما ينقل شيئاً من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه ينسب نفس ما نقله إلى الرسول! والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمراً واقعياً، فنسبوه إلى النبي زاعمين أنه إذا كان كعب الأحبار عالماً به فالنبي أولى بالعلم منه.

فإن كنت في شكٍّ من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر


1- ابن كثير، التفسير، قسم سورة النمل 3: 339.

ص:20

الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبي الأكرم، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنه موضوع مجعول على لسان الوحي، نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين.

1- قال الطبري: عن عكرمة، قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر، قال: وكان متكئاً فاحتفز ثمّ قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً، ثمّ قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرّات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، اللَّه أجل وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول اللَّه تبارك وتعالى «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ»، انما يعني دؤوبهما في الطاعة، فكيف يعذّب عبدين يُثني عليهما أنهما دائبان في طاعته؟ قاتلَ اللَّه هذا الحبر وقبّح حبريته، ما أجرأه على اللَّه وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين للَّه، قال: ثمّ استرجع مراراً (1).

2- قال ابن كثير: روى البزار، عن عبد العزيز بن المختار، قال:

سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد- مسجد الكوفة-، وجاء الحسن فجلس إليه فحدّث، قال: حدّثنا أبو هريرة أنّ رسول اللَّه (ص) قال: «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة»


1- الطبري، التاريخ 1: 44 ط بيروت.

ص:21

فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أُحدّثك عن رسول اللَّه (ص) وتقول- أحسبه قال-: وما ذنبهما، ثمّ قال: لا يروى عن أبي هريرة إلّامن هذا الوجه (1).

ولما كان إسلام كعب الأحبار بعد رحيل الرسول، لذلك تعذر عليه إسناد ما رواه من أساطير إلى النبي الأكرم، ولو أنه أدرك شيئاً من حياته صلى الله عليه و آله وإن كان قليلًا لنسب تلك الأساطير إليه، ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيه الباطلة، ولكن أبا هريرة لما صحب النبي واستحسن الظنّ بكعب الأحبار، وكان أُستاذه في الأساطير نسب الرواية إلى النبي صلى الله عليه و آله.

هذا نموذج قدمته إلى القرّاء لكي يقفوا على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، وأن لا يحسنوا الظن بمجرّد النقل من دون التأكد من صحته.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا، ولولا أنّه سبحانه قيّض في كلّ آونة رجالًا مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.

كعب الأحبار وتركيزه على التجسيم والرؤية:

انّ المتفحص فيما نقل عن ذلك الحبر يقف على أنه كان يركز على فكرتين يهوديّتين: الأُولى فكرة التجسيم، والثانية رؤية اللَّه تعالى.


1- تفسير ابن كثير 4: 475 ط دار الاحياء.

ص:22

يقول عن الفكرة الأُولى: انّ اللَّه تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال، وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك، فوضع عليها قدمه فقال: هذا مقامي ومحشر خلقي، وهذه جنّتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديّان الدين (1).

ففي هذه الكلمة الصادرة عن هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أولًا، وتركيز على انّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرّف.

كما أنه ركّز على الرؤية، حيث أشاع فكرة التقسيم، فقال: إنّ اللَّه تعالى قسّم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمّد (ص) (2)، وعنه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين.

ومن أعظم الدواهي أنّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وتحدّث عن الكثير من القصص الخرافية، وبعدما توفي عثمان تزلّف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته، ومن كلماته في حق الدولة الأموية، يقول: مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام (3).

وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.


1- أبو تميم الاصفهاني، حلية الأولياء 6: 20.
2- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 237.
3- الدارمي، السنن 1: 5.

ص:23

الرؤية في كتب العهدين:

إذا كان كعب الأحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤية، فلا غروّ ولا عجب في أنهم اتبعوا في نشر الفكرة في العهد القديم، وإليك بعض ما ورد فيه من تصريح برؤية الرب:

1- وقال (الرب): لا تقدر أن ترى وجهي؛ لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش.

وقال الرب: هو ذا عندي مكان فتقفُ على الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي اني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى اجتاز ثمّ أرفعُ يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يرى (1).

وعلى هذا فالربّ يُرى قفاه ولا يُرى وجهه!

2- رأيت السيد جالساً على كرسي عال .. فقلت: ويل لي لأن عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود (2).

والمقصود من السيد هو اللَّه جلّ ذكره.

3- كنت أرى أنه وضعتْ عروش، وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار (3).

4- أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك (4).

5- فقال منوح لامرأته: نموت موتاً لأننا قد رأينا اللَّه (5).


1- سفر الخروج، آخر الاصحاح الثالث والثلاثون.
2- أشعيا 6: 1- 6.
3- دانيال 7: 9.
4- مزامير داود 17: 15.
5- القضاة 13: 23.

ص:24

6- فغضب الربّ على سليمان، لأنّ قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرّتين (1).

7- وقد رأيت الرب جالساً على كرسيّه، وكل جند البحار وقوف لديه (2).

8- كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر، وأنا بين المسبيّين عند نهر خابور، أن السماوات انفتحت فرأيت رؤى اللَّه- إلى أن قال:- هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم (3).

إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام، كالأحبار والرهبان، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية، بحيث يُكفّر منكرها أحياناً أو يفسق، ولما صارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلّمون الذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال على تلك الفكرة من الكتاب أولًا والسنة ثانياً، ولولا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عب ء الاستدلال وجهد البرهنة، وسوف يوافيك انّ الكتاب يردّ فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها بشدّة، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا يمتّ إلى الموضوع بصلة.

إنّ مسألة رؤية اللَّه تعالى قد طرحت على صعيد البحث والجدال


1- الملوك الأول 11: 9.
2- الملوك الأول 22: 19.
3- حزقيال 1: 1 و 28.

ص:25

في القرن الثاني، عندما حيكت العقائد على نسق الأحاديث، ووردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة، فلأجل ذلك عدّت من العقائد الإسلامية، حتى انّ الإمام الأشعري عند ما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقى يوم الجمعة كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن وانّ اللَّه لا يُرى بالأبصار وانّ أفعال الشرّ أنا أفعلها، وانّي تائب مقلع معتقد للردّ على المعتزلة (1).

وقال في الإبانة: وندين بأنّ اللَّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول اللَّه (2).

وقال في كتابه الآخر: بسم اللَّه، إن قال قائل: لم قلتم إن رؤية اللَّه بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به تعالى ويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية (3).

وهذا النص يعرب عن انّ الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الإمام أحمد جزء من العقائد الإسلامية، ولذلك لا تجد كتاباً كلامياً إلّا ويذكر رؤية اللَّه تبارك وتعالى في الآخرة، ويقررها جزءاً من العقائد الإسلامية، حتى أنّ الإمام الغزالي مع ما أُوتي من مواهب كبيرة وكان من المصرّين على التنزيه- فوق ما يوجد في كتب الأشاعرة- لم يستطع أن


1- ابن النديم، الفهرس: 271؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان 3: 285.
2- الإمام الأشعري، الابانة: 21.
3- الإمام الأشعري، اللمع: 61 بتلخيص.

ص:26

يخرج عن إطار العقيدة، وقال: العلم بأنه تعالى مع كونه منزّهاً عن الصورة والمقدار، مقدّساً عن الجهات والأنظار، يُرى بالأعين والأبصار (1).

ثمّ إنّهم اختلفوا في الدليل على الرؤية، ففرقة منهم اعتمدوا على الأدلة العقلية دون السمعية، كسيف الدين الآمدي أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع (551- 631 ه) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي، إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعية، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلّاعلى سبيل التقريب» (2).

وفرقة أُخرى كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو جواز السمع، وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الاقدام (3).

الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا:

محل النزاع بين الأشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث، وبين غيرهم من أهل التنزيه، هو رؤية اللَّه سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم اللَّه سبحانه وطريق إلى وقوف الإنسان على الخارج.


1- الغزالي، قواعد العقائد: 169.
2- الآمدي، غاية المرام في علم الكلام: 174.
3- الرازي، معالم الدين: 37؛ والأربعون: 148؛ والمحصل: 138؛ والشهرستاني، نهاية الاقدام: 369.

ص:27

يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (النحل/ 78).

فالمُثبتُ للرؤية والنافي لها يركّزُ على موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار، وأنّ الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة.

وبذلك يظهر أنّ الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصرّ عليها أصحاب أحمد، بل الملتحق به الإمام الأشعري، ولا يمتّ إلى موضوع البحث بصلة، فقد نقل عن ضرار وحفص الفرد: انّ اللَّه لا يرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها (1).

يقول ابن حزم: إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة بالعين، بل بقوّة أُخرى موهوبة من اللَّه (2).

إلى غير ذلك من الكلمات التي حرّفت النقطة الرئيسية في البحث، ومعتقد أهل الحديث الأشاعرة، ونحن نركّز في البحث على الرؤية بالأبصار، وأمّا الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله.

فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرّين على جواز الرؤية، فأئمة أهل البيت ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزيدية قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة.

فالبيت الأموي والمنتمون إليه من أهل الحديث كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة، والرؤية للَّه سبحانه، وأما الإمام


1- الإمام الأشعري، مقالات الإسلاميين: 261.
2- ابن حزم، الفصل 3: 2.

ص:28

أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وبيته الطاهر وشيعتهم فكانوا من دعاة التنزيه والاختيار، ومن الرافضين لهذه البدع المستوردة من اليهود بحماس.

وقد نجم في ظلّ العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهجان في مجال المعارف كلّ يحمل شعاراً، فشيعة الإمام وأهل بيته يحملون شعار التنزيه والاختيار، والأمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر، وقد اشتهر منذ قرون، القول بأنّ: التنزيه والاختيار علويان، والتشبيه والجبر أمويان.

فصارت النتيجة في النهاية أنّ كلّ محدّث مُتزلّف إلى البيت الأموي يحشّد أخبار التجسيم والجبر، بلا مبالاة واكتراث، لكن الواعين من أُمّة محمّد الموالين لأهل بيته كانوا يتجنّبون نقل تلك الآثار.

قال الرازي في تفسير قوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»: احتجّ علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية على نفي كونه جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء، حاصلًا في المكان والجهة.

قالوا: لو كان جسماً لكان مثلًا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه، وذلك باطل بصريح قوله تعالى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»- إلى أن قال:-

واعلم إنّ محمّد بن اسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سمّاه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلًا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: نحن

ص:29

نثبت للَّه وجهاً ونقول: إنّ لوجه ربّنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شي ء أدركه بصره، ووجه ربّنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول: إنّ لبني آدم وجوهاً كتب اللَّه عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والاكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرّد اثبات الوجه للَّه يقتضي التشبيه لكان من قال إنّ لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثمّ قال: ولا شكّ إنّه اعتقاد الجهمية؛ لأنه لو قيل له: وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من اثبات الوجه واليدين للَّه إثبات التشبيه بين اللَّه وبين خلقه.

إلى أن قال: وأقول هذا المسكين الجاهل إنّما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنّه لم يعرف حقيقة المثلين، وعلماء التوحيد حقّقوا الكلام في المثلين ثمّ فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية (1).

وليس ابن خزيمة أوّل أو آخر محدّث تأثّر بهذه البدع، بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث الذين منهم:

1- عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني، صاحب المسند المتوفى عام 280 ه صاحب النقض، يقول فيه: إنّ اللَّه فوق عرشه وسماواته.

2- حشيش بن أصرم، مؤلف كتاب الاستقامة، يعرّفه الذهبي: بأنه


1- الرازي، مفاتيح الغيب 27: 150- 151.

ص:30

يرد فيه على أهل البدع، ويريد به أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه، توفي عام 253 ه.

3- أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي قال: سألت الدار قطني عن الأزهري، فقال: هو أحمد بن محمّد بن الأزهر بن حريث، سجستاني منكر الحديث، لكن بلغني أنّ ابن خزيمة حسن الرأي فيه، وكفى بهذا فخراً (1).

يلاحظ عليه أنه: كفى بهذا ضعفاً، لأنّ ابن خزيمة هذا رئيس المجسّمة والمشبّهة، ومنه يعلم حال السجستاني. توفي سنة 312 ه (2).

4- محمّد بن اسحاق بن خزيمة، ولد عام 311 ه وقد ألّف «التوحيد وإثبات صفات الرب»، وكتابه هذا مصدر المشبّهة والمجسّمة في العصور الأخيرة، وقد اهتمّت به الحنابلة، وخصوصاً الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق وسيع، وسيأتي الحديث عنه.

5- عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، ولد عام 213 ه وتوفي عام 290 ه، يروي أحاديث أبيه (الإمام أحمد بن حنبل)، وكتابه «السنة» المطبوع لأوّل مرّة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام 1349 ه، وهو كتاب مشحون بروايات التجسيم والتشبيه، يروي فيه ضحك الرب، وتكلّمه، واصبعه، ويده، ورجله، وذراعيه، وصدره، وغير ذلك ممّا سيمر عليك بعضه.

وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالاسرائيليات والمسيحيات


1- ميزان الاعتدال 1: 132.
2- سير أعلام النبلاء 14: 396.

ص:31

جرّت الويل على الأُمة وخدع بها المغفّلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعاً.

الرؤية في كلمات الإمام علي عليه السلام:

من يرجع إلى خطب الإمام علي عليه السلام في التوحيد وما أُثِر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية، وأنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون، وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب:

1- قال الإمام علي عليه السلام في خطبة الأشباح: «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شي ء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شي ء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه» (1).

2- وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أَفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مبائن (2).

3- وقال عليه السلام: «الحمد للَّه الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر» (3).


1- نهج البلاغة، الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعة عبده. والاناسي جمع إنسان، وإنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتاز عنها في لونها.
2- نهج البلاغة، الخطبة 174.
3- نهج البلاغة، الخطبة 180.

ص:32

إلى غير ذلك من خطبه عليه السلام الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به (1).

وأمّا المروي عن سائر أئمة أهل البيت عليهم السلام فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه «الكافي» باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثمان روايات (2)، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسيّة البصريّة، وقسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه في محله (3).

ثمّ إنّ للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا احتجاجاً في المقام على مقال المحدّث أبي قرة، حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر «كعب الأحبار»: من أنه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين، كما تقدّم.

فقال أبو قرة: فإنّا روينا: أنّ اللَّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسّم لموسى عليه السلام الكلام، ولمحمّد صلى الله عليه و آله الرؤية.

فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلِّغ عن اللَّه إلى الثقلين الجنّ والإنس أنّه لا تُدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شي ء، أليس محمّد صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى.

قال أبو الحسن عليه السلام: فكيف يجي ء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند اللَّه، وأنه يدعوهم إلى اللَّه بأمر اللَّه، ويقول: إنّه لا


1- لاحظ الخطبتين 48 و 81 من الطبعة المذكورة.
2- الكافي 1: 95 باب إبطال الرؤية.
3- التوحيد: 107- 122 باب 8.

ص:33

تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شي ء، ثمّ يقول: أنا رأيته بعينيّ وأحطتُ به علماً وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ أما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا، أن يكون أتى عن اللَّه بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.

فقال أبو قرة: إنّه يقول: «وَلَقَدْ رَآهُ نزلةً أُخْرَى» (النجم/ 13).

فقال أبو الحسن عليه السلام: انّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى» (النجم/ 11) يقول: ما كذب فؤاد محمّد صلى الله عليه و آله ما رأت عيناه ثمّ أخبر بما رأت عيناه فقال: «لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» (النجم/ 18) فآيات اللَّه غير اللَّه، وقال: «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» (طه/ 110) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرة: فتكذّب بالرواية؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شي ء (1).


1- الطبرسي، الاحتجاج 2: 375- 376.

ص:34

2 الرؤية في منطق العلم والعقل

اشارة

إنّ الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلّاإذا كان الشي ء مقابلًا أو حالّاً في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسبَ رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإنّ القدماء كانوا يفسّرون الرؤية على النحو التالي:

خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقّق الرؤية.

ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنّها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكيّة العين فتُحقّق الرؤية.

وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي أو حكم المقابلة، كما في رؤية الصور في المرآة.

ص:35

وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهيّة الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحقّقها فيما اذا تنزّه الشي ء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.

وبعبارة واضحة: أنّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشي ء في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلّابالمحسوس لا بالمجرّد.

ثمّ إنّ الرازي أراد الخدش في هذا الأمر البديهي ولكنّه رجع خائباً، واعترض على هذا الاستدلال بوجهين:

الأوّل: أنّ ادّعاء الضرورة والبداهة على امتناع رؤية الموجود المنزّه عن المكان والجهة أمر باطل، لأنّه لو كان بديهياً لكان متّفقاً عليه بين العقلاء، وهذا غير متّفق عليه بينهم، فلا يكون بديهياً، ولذلك لو عرضنا قضيّة أنّ الواحد نصف الاثنين لا يختلف فيه اثنان، وليست القضيّة الأُولى في البداهة في قوّة القضيّة الثانية(1)

.يلاحظ عليه: بأنّه خفى على الرازي بأنّ للبداهة مراتب مختلفة، فكون نور القمر مستفاداً من الشمس قضيّة بديهية، ولكن أينَ هذه البداهة من بداهة قولنا: الواحد نصف الاثنين، أضف إلى ذلك أنّ العقلاء متّفقون على لزوم المقابلة أو حكمها على تحقّق الرؤية، وإنّما خالف فيه أمثال من خالف القضايا البديهية كالسوفسطائيّين، حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنّهم كانوا يُعدّون من الطبقات العليا


1- الرازي، الأربعون: 190؛ ولاحظ أيضاً مفاتيح الغيب 13: 130.

ص:36

في المجتمع اليوناني.

الثاني: أنّ المقابلة شرط في الرؤية في الشاهد، فلمَ قلتم إنّه في الغائب كذلك.

وتحقيقه هو أنّ ذات اللَّه تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث، والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم، فلم يلزم من كون الادراك واجباً في الشاهد عن حضور هذه الشرائط، كونه واجباً في الغائب عند حضورها (1).

هذا كلامه في كتاب الأربعين، ويقول في تفسيره: ألم تعلموا إنّ ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شي ء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب أنّ القائلين بالامتناع يدعون الفطنة والكياسة ولم يتنبه أحد لهذا السؤال، ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام (2).

يلاحظ عليه: أنّ الرازي غفل عن أنّ الرؤية من الأُمور الإضافية القائمة بالرائي والمرئي، فالتقابل من لوازم الرؤية بما هي هي، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيواناً أو انساناً لا مدخليّة له في هذا الموضوع، فافتراض نفس الرؤية وتعلّقها بالشي ء وغضّ النظر عن الرائي وخصوصيات المرئي يجرّنا إلى القول: بأنّ الرؤية رهن التقابل أو حكمه، وذلك لأنّ الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية هو نفسها بما هي هي، والموضوع متحقّق في


1- الرازي، الأربعون: 190- 191، و انظر أيضاً: 217، 218، 313.
2- الرازي، مفاتيح الغيب 13: 130.

ص:37

الشاهد والغائب، والمادي والمجرّد، فاحتمال انتقاض الحكم باختلاف المرئي يناقض ما حكم به بأنّ الرؤية بما هي هي لا تنفكّ عن التقابل، فإنّه أشبه بقول القائل: إنّ نتيجة 2+ 2 هو الأربعة، لكن إذا كان المعدود مادياً لا مجرّداً، ويردّ بأنّ الموضوع نفس اجتماع العددين وهو متحقّق في كلتا الصورتين.

ثمّ ماذا يقصد (الرازي) من الغائب؟ هل يقصد الموجود المجرّد عن المادّة ولوازمها؟ فبداهة العقل تحكم بأنّ المنزّه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصوّر أنْ يقع طرفاً للمقابلة، وإنْ أراد منه الغائب عن الأبصار مع احتمال كونه جسماً أو ذا جهة، فذلك ابطال للعقيدة الإسلامية الغرّاء التي تبنّتها الأشاعرة وكذلك الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير موضع في تفسيره.

ولقائل أن يسأل الرازي: أنّه لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كلِّه أو بعضه؟ فلو وقعت على الكلّ تكون ذاته محاطة لا محيطة، وهذا باطل بالضرورة، ولو وقعت على الجزء تكون ذاته ذا جزء مركب.

وممّا ذكرنا تتبيّن ركاكة ما استدلّ به الرازي على كلامه.

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية:

اشارة

إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم أقدام راسخة في المسائل العقليّة لمّا وقعوا في تناقض من جرّاء هذا الدليل ذهبوا إلى الجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك:

ص:38

1- الرؤية بلا كيف:

هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة، وربما يعبّر عنه خصومهم بالبلكفة، ومعناه أنّ اللَّه تعالى يرى بلا كيف وأنّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.

يلاحظ عليه: أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلًا للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيّزاً في جهة كيف تكون رؤيته بالعيون والأبصار.

والحقّ أنّ اعتماد الأشاعرة على أهل الحديث في قولهم بلا كيف مهزلة لا يُعتمد عليها، فإنّ الكيفية ربّما تكون من مقوّمات الشي ء، ولولاها لما كان له أثر، فمثلًا عندما يقولون: إنّ للَّه يداً ورجلًا وعيناً وسمعاً بلا كيف ويصرّحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية، فإنّه يلاحظ عليه، بأنّ اليد في اللغة العربيّة وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية، فاثبات اليد للَّه بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساوياً لنفي معناه اللغوي، ويكون راجعاً إلى تفسيره بالمعاني المجازية التي تفرّون منها فرار المزكوم من المسك، ومثله القدم والوجه.

وبعبارة أُخرى: أنّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية، كاليد والرجل والقدم والوجه، في الكتاب والسنّة، يجب أن تُفسّر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية، كالقدرة في اليد مثلًا، ولما رأوا أنّ ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم

ص:39

يد بلا كيف، ولكنّهم ما دروا أنّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف.

ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين، فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها، فاثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية، وقد عرفت أنّ الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم.

وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلاميّة (1).

2- اختلاف الأحكام باختلاف الظروف:

إنّ بعض المثقّفين من الجُدَد لما أدركوا بعقولهم أنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة التجأوا إلى القول بأنّ كلّ شي ء في الآخرة غيره في الدنيا، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللّازم السلبي.

لكن هذا الكلام رجمٌ بالغيب، لأنّه إنْ أراد من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وأنّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل الوجوه وامثلها، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: «كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً» (البقرة/ 25) ولكن إنْ أراد أنّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها فهذا يوجب انهيار النُظم الكلامية والفلسفيّة والأساليب العلميّة التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم، إذ معنى ذلك أنّ النتائج المثبتة في


1- لاحظ بحوث في الملل والنحل 2: 96- 105.

ص:40

جدول الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها فتكون نتيجة ضرب 2* 2: 5 أو 10 أو 000 وأنّ قولنا: كلّ ممكن يحتاج إلى علّة يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غنيّ عن العلّة.

فعند ذلك لا يستقرّ حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الانسان سوفسطائياً مائة بالمائة.

3- عدم الاكتراث باثبات الجهة:

إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة بدلًا من أنْ يُجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجرّدوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة، نراهم يقدمون لشباب الجامعات وخريجيها دعماً مالياً وفكرياً لمواصلة البحوث حول الرؤية في محاولة لاثباتها واثبات الجهة للَّه تعالى، وإليك نموذج من ذلك:

يقول الدكتور أحمد بن محمّد خريج جامعة أُمّ القرى: إنّ إثبات رؤية حقيقيّة بالعيان من غير مقابلة أو جهة، مكابرة عقليّة، لأنّ الجهة من لوازم الرؤية، واثبات اللزوم ونفي اللّازم مغالطة ظاهرة.

ومع هذا الاعتراف تخلّص عن الالتزام باثبات الجهة للَّه بقوله.

إنّ إثبات صفة العلوّ للَّه تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنّة في مواضع كثيرة جداً، فلا حرج في اثبات رؤية اللَّه تعالى من هذا العلوّ الثابت له تبارك وتعالى، ولا يقدح هذا في التنزيه، لأنّ مَن أثبتَ هذا أعلم البشر بما يستحقّ اللَّه تعالى من صفات الكلمات.

أمّا لفظ الجهة فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرِد نفيها ولا

ص:41

إثباتها بالنصّ فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ (1).

ويلاحظ على هذا الكلام ما يلي:

أوّلًا: كيف ادّعى أنّ الكتاب والسنّة أثبتا العلوّ للَّه الذي هو مساوق للجهة، فإن أراد قوله سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ» فقد حُقّقَ في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض وعدم عجزه عن التدبير. وأين هو من اثبات العلوّ للَّه، فقد أوضحنا مفادّ هذه الآيات في أسفارنا الكلاميّة (2).

وإنْ أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة، فكلها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين ويرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام.

ثانياً: إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض فكيف يكون محيطاً بكلّ شي ء وموجوداً مع كلّ شي ء، فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلامٌ على التجسيم.

ونِعْمَ ما قال شاعر المعرّة:

ويا موت زر إنّ الحياة ذميمة ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل

فالذي تستهدفه رسالات السماء يتلخّص في توحيده سبحانه، وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلًا، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات ثانياً.

غير أنّ أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل


1- أحمد بن ناصر، رؤية اللَّه تعالى، نشر معهد البحوث العلميّة في مكّة المكرّمة: 61.
2- الالهيّات 1: 330- 340.

ص:42

حبائل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين، فقالوا بقدم القرآن وعدم حدوثه، وأثبتوا بذلك مثلًا للَّه في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.

وأثبتوا للَّه سبحانه العلوّ والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة، فأبطلوا بذلك تنزيهه- سبحانه- وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.

فخالفوا رسالات السماء في موردين أصيلين:

التوحيد: بالقول بقدم القرآن.

التنزيه: باثبات الجهة والرؤية.

«كَالَّتِي نَقَضَتْ غزلها مِنْ بَعْدِ قوّةٍ أَنْكَاثاً»

ص:43

3 موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية

اشارة

إنّ الذكر الحكيم يصف اللَّه سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى تنزيهه عن الجسم والجسمانية، وأنّه ليس له مثل ولا نظير، ولا ندّ ولا كفو، وأنّه محيط بكلّ شي ء، ولا يحيطه شي ء، إلى غير ذلك من الصفات المنزِّهة التي يقف عليها الباحث إذا جمع الآيات الواردة في هذا المجال، وبدورنا نشير إلى بعض منها:

قال سبحانه:

1- «فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (الشورى/ 11).

2- «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدُ» (الاخلاص/ 1- 4).

3- «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»

ص:44

(الحديد/ 3).

4- «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (الحديد/ 4).

5- «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَاإلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (الحشر/ 23).

6- «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الحشر/ 24).

7- «مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا وَهُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» (المجادلة/ 7).

8- «أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ» (فصلت/ 54).

9- «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَاتَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» (البقرة/ 255).

10- «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (الأنعام/ 103).

وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل، وهو أحدٌ لا كُفو له، لم يلد ولم يولد، بل هو أزليّ، فبما أنّه أزليّ الوجود،

ص:45

فوجوده قبل كلّ شي ء أي لا وجود قبله.

وبما أنّه أبديّ الوجود، فهو آخرُ كلّ شي ء إذْ لا وجود بعده.

وبما أنّه خالقُ السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده، فهو باطنُ كلّ شي ء، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده، فهو ظاهر كلّ شي ء، لا يحويه مكان، لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان، فكان قبل أنْ يكون أيّ مكان.

وبما أنّ العالم دقيقه وجليله فقير محتاج إليه قائم به، فهو مع الأشياء معيّة قيّوميّة لا معيّة مكانيّة، ومع الانسان أينما كان.

فلا يكون من نجوى ثلاثةٍ إلّاهو رابعهم ولا خمسةٍ إلّاهو سادسُهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّاهو معهم أينما كانوا، وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به، ولا يمكن للقيّوم الغيبوبة عمّا قام به، وفي النهاية هو محيط بكلّ شي ء لا يحيطه شي ء، فقد أحاط كُرسيُّه السماوات والأرض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تُدرِكه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها، ولكنّه لكونه محيطاً يُدركُ الأبصار.

هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناه بايجاز وأوردناها بلا تفسير.

وقد علمت أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز، فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح.

ص:46

فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها يحكم بأنّه سبحانه فوق أنْ يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه، وعند ذلك لو قيل له: إنّه جاء في الأثر: إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تُضامون في رؤيته (1).

فسيجد أنّ هذا الكلام يناقض ما تلا من الآيات أو استمع إليها، وسيشكك ويقول: اذا كان الخالقُ البارئُ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان ومحيط بالسماوات والأرض، فكيف يرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علوّ ولا جهة، بل هو خالقهما، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكلّ شي ء؟!

ولا يكون هذا التناقض بين الوصفين بأقلّ من التناقض الموجود في العقيدة النصرانيّة من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة.

وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أنْ يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلاميّة والمحاولات الفكريّة للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات منزّه عن الجهة والمكان محيط بعوالم الوجود، وفي نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الانسان يراه ويبصره كما يبصر


1- البخارى، الصحيح 4: 200.

ص:47

البدر ويشاهده في أُفق عال.

وقد عرفت في التمهيد أنّ السهولة في العقيدة والخلوّ من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلاميّة، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه واحداً وثلاثاً.

*** هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما يطرحها ليؤكد عجز الانسان عن نيلها، ويعتبر سؤالها وتَمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلُّعاً إلى ما هو دونه.

1- قال سبحانه: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (البقرة/ 55- 56).

2- وقال سبحانه: «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّل عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُبِيناً» (النساء/ 153).

3- وقال سبحانه: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف/ 143).

4- وقال سبحانه: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا، فَلَمَّا

ص:48

أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» (الأعراف/ 155).

فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الانسان قاصراً عن أنْ ينالها على وجه ينزل العذاب عند سؤالها.

فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقتٍ آخر، لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثمّ يحييهم بدعاء موسى، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع تاب إلى اللَّه سبحانه وقال: أنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى.

فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد، بل وإماتة وإنزال عذاب، يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابليّة الإنسان، وطلبه لها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال، فعند ذلك لو قيل للمتدبّر في الآيات إنّه روى قيس بن أبي حازم أنّه حدّثه جرير وقال: خرج علينا رسول اللَّه ليلة البدر فقال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» (1)، يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ويشكّ أنّه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً، والإنسان غير المؤهل على الرؤية مؤهلًا لها.

إنّ هنا محاولتين للتخلّص من التضادّ الموجود بين الآيات،


1- البخاري، الصحيح 4: 200.

ص:49

وخبر قيس بن أبي حازم الدالّ على وقوع الرؤية في الآخرة:

المحاولة الأُولى:

إنّ تعارض الآيات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد، فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الأُولى على الحياة الحاضرة، والثانية على الحياة الآخرة (1).

يلاحظ عليه: بأنّ الجمع بين الآيات والرواية على نحو ما ذكر أشبه بمحاولة الفقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد.

ولو صحّ ما ذكر فإنّما هو في المسائل الفرعيّة لا العقائدية، وليست الآيات الواردة فيها كالمطلق، والحديث كالمقيد، بل هي بصدد بيان العقيدة الإسلامية على أنّه سبحانه فوق أن تناله الرؤية، وانّ من تمنّاها فإنّما يتمنّى أمراً محالًا.

والدافع إلى هذا الجمع إنّما هو تزمّتهم بالروايات وتلقّيهم صحيح البخاري وغيره صحيحاً على الإطلاق لا يقبل النقاش والنقد، فلم يكن لهم محيص من معاملة الروايات والآيات معاملة الاطلاق والتقييد، ولأجل ذلك فكلّما تليت هذه الآيات للقائلين بالجواز يجيبون بأنّ الجميع يعود إلى هذه الدنيا ولا صلة له بالآخرة، ولكنّهم غافلون عن أنّ الآيات تهدف في تنديدها وتوبيخها إلى ملاحظة طلب نفس الرؤية


1- يظهر ذلك الجواب عن أكثر المتأوّلين لآيات النفي حيث يقدّرونها بالدنيا.

ص:50

بما هي هي، بغضِّ النظر عن الدنيا والآخرة، ولا صلة لها بظرف السؤال، فحمل تلك الآيات على ظرف خاص تلاعب بالكتاب العزيز وتقديم للسنّة على القرآن، واعتماد على الظنّ مكان وجود القطع واليقين.

وأيمن اللَّه لو لم يكن في الصحاح حديث قيس بن أبي حازم وغيره لما كان لديهم أيّ وازع على تأويل الآيات.

المحاولة الثانية:

لقد تصدّى أبو الحسن الأشعري للإجابة عن الآيات الأخيرة وزعم أنّ الاستعظام إنّما كان لطلبهم الرؤية تعنّتاً وعناداً، قال: إنّ بني إسرائيل سألوا رؤية اللَّه عزّ وجلّ على طريق الانكار لنبوّة موسى وترك الايمان به حتى يروا اللَّه لأنّهم قالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» فلمّا سألوه الرؤية على طريق ترك الايمان بموسى عليه السلام حتى يريهم اللَّه من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم اللَّه سؤال أهل الكتاب أنْ ينزّل عليهم كتاباً من السماء من غير أنْ يكون ذلك مستحيلًا، ولكن لأنّهم أبوا أنْ يؤمنوا بنبيّ اللَّه حتى يُنزّل عليهم من السماء كتاباً» (1).

يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ ما ذكره من أنّ الاستعظام لأجل كون طلبهم كان عن عنادٍ وتعنّتٍ لا لطلب معجزة زائدة، لو صحّ فإنّما يصحّ في غير هذه الآيات، أعني في قوله سبحانه: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً


1- الابانة عن أُصول الديانة: 15 ط. دار الطباعة المنيرية، القاهرة.

ص:51

كَبِيراً» (الفرقان/ 21)، لا فيما تلوناه من الآيات، فإنّ الظاهر منها انّ الاستعظام والاستفظاع راجعان إلى نفس السؤال بشهادة قوله: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» (النساء/ 153)، والذي يوضح ذلك أنّ التوبيخ والتنديد راجعان إلى نفس السؤال- مع غضّ النظر عن سبب السؤال، وهل هو لغاية زيادة العلم أو للعتوّ؟- أُمور:

1- إنّه سبحانه سمّى سؤالهم ظلماً وتعدّياً عن الحدّ.

2- إنّ موسى سمّى سؤالَهم سؤالًا سفهيّاً.

3- عندما طلب موسى الرؤية أُجيب بالخيبة والحرمان، ولم يكن سؤاله عن عناد واستكبار، ولو كانت الخيبة مختصّة بالدنيا، كان عليه سبحانه الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنّها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الآخرة.

وثانياً: إنّه سبحانه وإنْ جمع في آية سورة النساء (1)، بين نزول الكتاب من السماء عليهم، ورؤية اللَّه جهرةً، لكن كون الأوّل أمراً ممكناً لا يكون دليلًا على كون الثاني مثله، وذلك لأنّ وجه الشبه بين الأمرين ليس الإمكان أو الاستحالة حتى يكونا مشاركين فيهما، بل هو طلب أمر عظيم، وشي ء ليسوا مستأهلين له، فلا يكون إمكان الأوّل دليلًا على إمكان الثاني.

على أنّ قوله سبحانه «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ» مشير إلى


1- النساء: 153.

ص:52

الفرق بين الطلبين مع المشاركة في أمر الاستعظام وهو استحالة الثاني دون الأوّل، ولذا أسماه أكبر.

وبذلك يقف على ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره، لكونه مأخوذاً من كلام إمامه الأشعري.

ونقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفّح وناقشه بوجه غير تامّ (1).


1- الرازي، مفاتيح الغيب 3: 85.

ص:53

رؤية اللَّه في الذكر الحكيم

دراسة أدلة النافين

4 الآية الأُولى: لا تدركه الأبصار

اشارة

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالًا، وأنّه يعدّ طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً، قبيحاً، موجباً لنزول الصاعقة والعذاب، والآيات السالفة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل.

وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق وتحليله.

قال سبحانه: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٍ لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (الأنعام/ 102- 103) والاستدلال بالآية يتوقّف على البحث في مرحلتين:

المرحلة الأُولى: في بيان مفهوم الدرك لغة:

الدرك في اللغة اللحوق والوصول وليست بمعنى الرؤية، ولو

ص:54

أُريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينيّة المتعلّق.

قال ابن فارس: الدرك له أصلٌ واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشي ء بالشي ء ووصوله إليه، يقال: أدركت الشي ء، أدركه ادراكاً، ويقال: أدرك الغلام والجارية إذا بلغا، وتدارك القوم: لحق آخرُهم أوّلهم، فأمّا قوله تعالى: «بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» (النمل/ 66) فهو من هذا، لأن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم (1).

وقال ابن منظور مثله، وأضاف: ففي الحديث «أعوذ بك من درك الشقاء» أي لحوقه، يقال: مشيتُ حتى أدركتهُ، وعشتُ حتى أدركتُه، وأدركتُه ببصري أي رأيته (2).

إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة، فالادراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والادراك بالمشي، كما في قول ابن منظور: مشيت حتى أدركته، التحاق الماشي بالمتقدّم بالمشي، وهكذا غيره.

فإذا قال سبحانه: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» يتعيّن ذلك المعنى الكلي (اللحوق والوصول) بالرؤية، ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرّد بهذا الوصف تعالى عن الرؤية دون غيره.

المرحلة الثانية: في بيان مفهوم الآيتين:

اشارة

أنه سبحانه لما قال: «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٍ» ربما يتبادر إلى


1- ابن فارس، مقاييس اللغة 2: 366.
2- ابن منظور، اللسان 10: 419.

ص:55

بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلًا على كلّ شي ء، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية، لكن يدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلًا لكلّ شي ء «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ».

وعندما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان أنه إذا تعالى عن تعلّق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط الادراك والعلم بينه وبين مخلوقاته، يدفعه قوله: «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» ثم تعليله بقوله: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» و «اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشي ء و «الخبير» من له الخبرة الكاملة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شي ء لرقّته ونفوذه في الأشياء، كان شاهداً على كلّ شي ء، لا يفقده ظاهر كلّ شي ء وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شي ء عن شي ء أو يحتجب عنه شي ء بشي ء.

وبعبارة أُخرى أن الأشياء في مقام التصور على أصناف:

1- ما يَرى ويُرى كالانسان.

2- ما لا يَرى ولا يُرى كالاعراض النسبية كالابوة والنبوة.

3- ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.

4- ما يَرى ولا يُرى وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنه يَرى ولا يُرى، والآية بصدد مدحه وثنائه بأنه جمعَ بين الأمرين يَرى ولا يُرى لا بالشق الأول وحده نظير قوله سبحانه: «فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ» (الأنعام/ 14) ودلالة الآية على أنه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح غير أن للرازي ومن لفّ لفّه

ص:56

تشكيكات نأتي بها مع تحليلها:

الشبهة الأُولى:

انّ الآية في مقام المدح، فإذا كان الشي ء في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشي ء، أمّا إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنّه قدر على حَجب الأبصار عن رؤيته وعن ادراكه، كانت هذه القدرة الكاملة دالّة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالّة على أنه جائز الرؤية حسب ذاته (1).

إنّ هذا التشكيك يحطّ من مقام الرازي، فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك، وذلك لأنه زعم أن المدح بالجملة الأولى، أعني قوله سبحانه:

«لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» وغفل عن أنّ المدح بمجموع الجزئين المذكورين في الآية، بمعنى أنه سبحانه لعلوّ منزلته لا يُدرَك وفي الوقت نفسه يُدرِك غيره، وهذا ظاهر لمن تأمّل في الآية ونظيرتها قوله سبحانه: يُطعِم ولا يُطعَم، فهل يرضى الرازي بأنه سبحانه يمكن له الأكل والطعم.

الشبهة الثانية:

إن لفظ الأبصار صيغةُ جمعٍ دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق، فقوله: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» بمعنى لا تراه جميع الأبصار، وهذا يفيدُ سلبَ العموم ولا يفيد عمومَ السلب (2).


1- الرازي، مفاتيح الغيب 13: 125.
2- الرازي، مفاتيح الغيب 13: 126.

ص:57

يلاحظ عليه: أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار، نظير قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة/ 190) وقوله سبحانه: «فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ» (آل عمران/ 32) وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران/ 57).

يقول الإمام علي عليه السلام: «الحمد للَّه الذي لا يبلُغُ مدحتهُ القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الذي لا يُدركه بُعد الهِمم، ولا ينالُه غوضُ الفِطَن» (1).

فهل يحتمل الرازي في هذه الآيات والجمل سلب العموم وأنه سبحانه لا يحبّ جميع المعتدين والكافرين والظالمين، ولكن يحب بعضَ المعتدين والكافرين والظالمين، أو أنّ بعض القائلين يبلغون مدحته ويحصون نعماءه.

وهذا دليل على أنّ الموقف المسبق للرازي هو الذي دفعه لدراسة القرآن لأجل دعمه، وهو آفة الفهم الصحيح من الكتاب.

الشبهة الثالثة: الإدراك هو الاحاطة

إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فِصَله والرازي في مفاتيح الغيب وابن قيّم في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (2)، وقد أسهبوا


1- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
2- وقبلهم الطبري كما سيوافيك نصّه في خاتمة المطاف.

ص:58

الكلام في تطوير الشبهة، ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها، وإنّما نشير إلى المهم من كلماتهم.

وبما أن الأساس لكلام هؤلاء هو ابن حزم الظاهري نذكر نصّ كلامه أوّلًا.

قال: إنّ الادراك في اللغة يفيد معنى زائداً عن النظر، وهو بمعنى الإحاطة، وليس هذا المعنى في النظر والرؤية، فالادراك (الاحاطة) فيض عن اللَّه تعالى على كلّ حال في الدنيا والآخرة، والدليل على ذلك قوله سبحانه: «فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ»، ففرّق اللَّه عزّ وجلّ بين الإدراك والرؤية فرقاً جليّاً، لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله: «فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ»، وأخبر تعالى بأنه رأى بعضهم بعضاً فصحت منهم الرؤية لبني اسرائيل، ولكن نفى اللَّه الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم: «كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ»، فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني اسرائيل ولم يدركوهم، ولا شكّ في أنّ ما نفاه اللَّه تعالى غير الذي أثبته، فالادراك غير الرؤية والحجّة لقولنا قول اللَّه تعالى (1).

يلاحظ عليه: أن الشبهة تعرب عن أنّ صاحبها لم يقف على كيفية الاستدلال بالآية على نفي الرؤية، فزعم أن أساسه هو كون الادراك في اللغة بمعنى الرؤية، فردّ عليه بأنه ليس بمعنى الرؤية، بشهادة أنه سبحانه جمع في الآية بين اثبات الرؤية ونفي الدرك، ولكنه غفل عن أن مبدأ الاستدلال ليس ذلك، وقد قلنا سابقاً: إنّ الادراك في اللغة بمعنى اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ابتداءً، وإنما يتعيّن في النظر والرؤية


1- ابن حزم، الفصل في الملل والنحل 3: 32؛ ولاحظ: ابن القيم، حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 229.

ص:59

حسب المتعلّق، ولأجل ذلك لو جرّد عن المتعلّق- كما في الآية- لا يكون بمعنى الرؤية، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفي الدرك، لأنّ الدرك هناك بحكم عدم ذكر المتعلّق كالبصر، بمعنى اللحوق والوصول، فقد وقع الترائي بين الفريقين، ورأى فرعون وأصحاب بني اسرائيل، ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقوهم.

وعلى ضوء ذلك إذا جرّد عن المتعلّق مثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق، وإذا اقترن بمتعلّق مثل البصر يتعيّن في النظر والرؤية، لكن على وجه الاطلاق من غير تقيّد بالإحاطة.

فبطل قوله: بأنّ الادراك يدلّ على معنى زائد على النظر وهو الاحاطة، بل الادراك مجرّداً عن القرينة لا يدلّ على الرؤية أبداً، ومع اقتران القرينة ووجود المتعلّق يدلّ على الرؤية والنظر على وجه الاطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص من الرؤية.

وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شي ء، حيث قال: لا نسلّم إن إدراك البصر تعبير عن الرؤية، بل هو بمعنى الإحاطة، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأنّ ذلك الإبصار إحاطة به فسمّى هذه الرؤية إدراكاً، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسمّ تلك الرؤية إدراكاً، فالحاصل أنّ الرؤية جنس تحتها نوعان، رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة، والرؤية مع الاحاطة هي المسماة بالادراك، فنفي الادراك يفيد نفيَ نوع واحد من نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفس الجنس، فلم يلزم من نفي الادراك عن اللَّه تعالى نفي الرؤية عنه.

ص:60

ثمّ قال: فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم (1).

ويلاحظ عليه بأن ما ذكره الرازي كان افتراءً على اللغة للحفاظ على المذهب، وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي، ولولا أنّ الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرأ بذلك التصرّف.

ونحن بدورنا نسأله: ما الدليل على أنّ الادراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الادراك الاحاطي، مع أننا نجد خلافه في الأمثلة التالية، نقول: أدركت طعمهُ أو ريحهُ أو صوتهُ، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامة بها، أو أنه بمعنى مجرد الدرك بالأدوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الاحاطة، مثل قولهم أدرك الرسول، فهل هو بمعنى الإحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرّة أو مرّتين، ولم يفسّره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي.

وحاصل الكلام: أنّ اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الادراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلّي أي اللحوق والوصول، على الرؤية والسماع، سواء كان الادراك على وجه الاحاطة أو لا، وأما إذا تجرّدت اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق، قال سبحانه: «حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (يونس/ 90) ومعنى الآية: «حَتَّى إِذَا لَحِقَهُ الْغَرَقَ» ورأى نفسه غائصاً في الماء استسلم وقال: «آمَنْتُ ...».


1- الرازي، مفاتيح الغيب 13: 127.

ص:61

وقال سبحانه: «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَاتَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى» (طه/ 77)، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل.

وقال سبحانه: «فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» (الشعراء/ 61) فأثبت الرؤية ونفى الدرك، وما ذلك إلّالأنّ الادراك إذا جُرّد عن المتعلّق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتاً، بل بمعنى اللحوق.

نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحّضاً في الرؤية من غير فرق بين نوعٍ ونوع، وتخصيصه بالنوع الإحاطي لأجل دعم المذهب افتراءٌ على اللغة.

***

ص:62

رؤية اللَّه في الذكر الحكيم

دراسة أدلة النافين

5 الآية الثانية: ولا يحيطون به علما

اشارة

قال سبحانه: «يَوْمَئِذٍ لَاتَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» (طه/ 109- 110).

إنّ الآية تتركّب من جزئين:

الأوّل: قوله: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ».

الثاني: قوله: «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».

والضمير المجرور في قوله: «بِهِ» يعود إلى اللَّه سبحانه.

ومعنى الآية:

اللَّه يحيطُ بهم لأنه «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ويكون معادلًا لقوله: «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» ولكنّهم «لَايُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».

ويساوي قوله «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ».

ص:63

وأمّا كيفية الاستدلال فبيانُها أنّ الرؤية سواء أوَقعت على جميع الذات أم على جزئها، فهي نوع إحاطةٍ علمية من البشر به سبحانه، وقد قال: «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».

ولكن الرازي لأجل التهرّب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال: بأنّ الضمير المجرور يعود إلى قوله: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم، واللَّه سبحانه محيطٌ بما بينَ أيديهم وما خلفَهم.

أقول: إنّ الآية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادةِ ما قبلَها «يَوْمَئِذٍ لَاتَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا»، وعندئذٍ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم» هو الحياة الأُخروية الحاضرة، وقوله سبحانه: «وَمَا خَلْفَهُمْ» هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الأُخروية، وحينئذٍ لو رجع الضمير في قوله «وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» إلى الموصولين يكون مفادُ الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى «اللَّه»، فستكون الآية بصدد التنزيه ويكون المقصود أنّ اللَّه يحيط بهم علماً وهؤلاء لا يحيطون كذلك، على غرار سائر الآيات.

ص:64

رؤية اللَّه في الذكر الحكيم

دراسة أدلة النافين

6 الآية الثالثة: قال لن تراني

اشارة

قال سبحانه: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف/ 143). لقد استدلّ- بهذه الآية- كلٌّ من النافي والمثبت، رُغْم أنْ ليس لها إلّامدلول واحد، فكان بين القولين تناقض واضح، ومردّ ذلك إلى أن أحد المستدلّين لم يتجرّد عن هواه حينما استدلّ بالآية، وإنّما ينظر إليها ليحتجّ بها على ما يتبنّاه، وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى النبي صلى الله عليه و آله عنه بالخبر المتواتر، وبالتالي قلّ من نظر إليها بموضوعية خالية عن كلّ رأي مسبق.

المفهوم الصحيح للآية:

اشارة

لا شكّ أنّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه

ص:65

بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النافين والمثبتين، وطلبنا منه أنْ يبيّن الاطار العام للآية ومفادها ومنحاها، وهل هي بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها؟ فسيجيب بصفاء ذهنه بأنّ الاطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية، وأنّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يُمحى أثره إلّابالتوبة، فسيكون فهم ذلك العربي حجّة علينا لا يجوز لنا العدول عنها، والقرآن نزل بلسانٍ عربيّ مبين ولم ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.

كما أنّ إذا أردنا أن نُفسّر مفاد الآية تفسيراً صناعياً فلا شكّ أنه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها، وذلك لوجوه:

1- الاجابة بالنفي المؤبد:

لمّا سأل موسى رؤية اللَّه تبارك وتعالى أُجيب ب «لَنْ تَرَانِي»، والمتبادر من هذه الجملة أي قوله: «لَنْ تَرَانِي» هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقُّقها أبداً.

والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتى في مورد واحد.

1- قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» (الحج/ 73).

2- «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» (التوبة/ 80).

3- «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» (محمّد/ 34).

4- «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ»

ص:66

(المنافقون/ 6).

5- «وَلَنْ تَرَضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ» (البقرة/ 120).

6- «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً» (التوبة/ 83).

إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.

وربّما نوقش في دلالة «لَنْ» على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم «لن» موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثمّ نعرض المناقشة عليهما.

1- إنّ المراد من التأبيد ليس كونُ المنفي ممتنعاً بالذات، بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان، نعم ربّما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية.

2- إنّ المراد من التأبيد هو النفي القاطع، وهذا قد يكون غير محدّد بشي ء وربّما يكون محدّداً بظرفٍ خاص، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحالة مادام الظرف باقياً.

إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنّه قال: ما نُقل عن أهل اللغة إنّ كلمة لن للتأبيد دعوى باطلة، والدليل على فساده قوله تعالى في حقّ اليهود «وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» (البقرة/ 95) قال: وذلك لأنّهم يتمنّون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار، قال سبحانه: «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ» (الزخرف/ 77) فإنّ المراد من «لِيَقْضِ عَلَيْنَا» هو

ص:67

القضاء بالموت (1).

ووجه الضعف ما عرفت من أنّ التأبيد على قسمين، غير محدّد ومحدّد باطار خاص، ومن المعلوم أنّ قوله سبحانه «وَلَنْ يَتَمَنَّوْنَهُ» ناظر إلى التأبيد في الاطار الذي اتّخذه المتكلّم ظرفاً لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنّون الموت أبداً، لعلمهم بأنّ اللَّه سبحانه بعد موتهم يُقدّمهم للحساب والجزاء، ولأجل ذلك لا يتمنّوه أبداً قطّ.

وأمّا تمنّيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فلم يكن داخلًا في مفهوم الآية الأُولى حتى يُعدّ التمنّي مناقضاً للتأبيد.

ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربّما يقال: إنّ «لن» لا تدلّ على الدوام والاستمرار بشهادة قوله: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً» إذ لو كانت «لَنْ» تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة «الْيَوْمَ» لأنّ اليوم محدّد معيّن، وتأبيد النفي غير محدّد ولا معيّن، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب: «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي» (يوسف/ 80) حيث حدّد بقاءه في الأرض بصدور الاذن من أبيه (2).

وجه الوهن: أنّ التأبيد في كلام النحاة ليس مساوياً للمعدوم المطلق، بل المقصود هو النفي القاطع الذي لا يشق، والنفي القاطع الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين:


1- الرازي، مفاتيح الغيب 14: 227.
2- عباس حسن، النحو الوافي 4: 281 كما في كتاب رؤية اللَّه للدكتور أحمد بن ناصر.

ص:68

تارةً يكون الكلام غير محدّد بظرف خاص ولا تدلّ عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذٍ يساوق التأبيدُ المعدوم المطلق.

وأُخرى يكون الكلام محدّداً بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية، فيكون التأبيد محدّداً بهذا الظرف أيضاً، ومعنى قول مريم:

«فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً» (مريم/ 26) هو النفي القاطع في هذا الاطار، ولا ينافي تكلّمها بعد هذا اليوم.

والحاصل: أنّ ما أُثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الامعان فيما ذكرنا من الأمرين، فتارةً حسبوا أنّ المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربّما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله:

«فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً» (التوبة/ 83)، وأُخرى حسبوا أنّ التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق، فناقشوا بالآيات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً، ولو أنّهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات.

وبما أنّه سبحانه لم يتّخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً، فسيكون مدلوله عدم تحقّق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة.

والحاصل: أنّ الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل، ولذلك أمره أنْ ينظر إلى الجبل عند تجلّيه، فلما اندكّ الجبل خرّ موسى مغشيّاً عليه من الذُعْرِ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول: لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة فاصبر حتى يأتيك وقته، والانسان مهما بلغ كمالًا في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي

ص:69

خُلق عليها، وقد بيّن سبحانه أنه خلق ضعيفاً.

2- تعليق الرؤية على أمر غير واقع:

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلّي، وعدم تحوّله إلى ذرّات ترابية صغار بعده، والمفروض أنه لم يبقَ على حالته السابقة، وبطلت هويّته، وصارت تراباً مدكوكاً، فإذا انتفى المعلّق عليه (بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلّق، وهذا النوع من التعليق في كلامهم، طريقة معروفة حيث يعلِّقون وجود الشي ء على ما يعلم عدم وقوعه وتحقّقه، واللَّه سبحانه بما أنه يعلم أنّ الجبل لا يستقر في مكانه- بعد التجلّي- فعلّق الرؤية على استقراره، لكي يستدلّ بانتفائه على انتفائه، قال سبحانه: «وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ» (الأعراف/ 40).

والحاصل: أنّ المعلّق عليه هو وجودُ الاستقرار بِغَضّ النظرِ عن كونهِ أمراً ممكناً أو مستحيلًا، والمفروض انّه لا يستقر، فبانتفائه ينتفي ما علّق عليه وهو الرؤية.

وبالامعان فيما ذكر تستغني عن جلّ ما ذكره المتكلّمون من المعتزلة والأشاعرة حول المعلّق عليه (1).

ولارادة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي، قال: إنه تعالى علّق رؤيته على أمر جائز، والمعلّق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية


1- القاضي عبد الجبار، شرح الأُصول الخمسة: 265؛ والشريف الجرجاني، المواقف 8: 121؛ والرازي، مفاتيح الغيب 14: 231، ولا حاجة لنقل كلماتهم في المقام.

ص:70

في نفسها جائزة بدليل قوله: «فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي» واستقرار الجبل أمرٌ جائزُ الوجود في نفسه، فثبت أنه تعالى علّق رؤيته على جائز الوجود في نفسه ... (1).

ويلاحظ على كلامه أنّ المعلّق عليه ليس إمكانُ الاستقرار وكونه أمراً ممكناً مقابل كونه أمراً مُحالًا عليه حتى يكون أمراً حاصلًا ويلزم منه وجود المعلّق، أعني الرؤية، مع أنّ المفروض عدمها، بل المعلّق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه، إذ لو كان المعلّق عليه امكان الاستقرار يلزم نقض الغرض وتحقّق الرؤية لموسى عليه السلام بل المعلّق عليه هو بقاء الجبل على حالته التي كان عليها حين التكلّم، والمفروض أنّه لم يبقَ عليها، بل دُكَّ وصار تراباً مستوياً بالأرض، فبانتفاءه انتفى المعلَّق، أعني الرؤية.

3- تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية:

تذكر الآية أن موسى لما أفاق فأوّلُ ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال: «سُبْحَانَكَ» وذلك لأنّ الرؤية لا تنفكّ عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، فنزّه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها.

ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربّما يقال: إنّ المراد- من التنزيه هنا- هو تنزيه اللَّه وتعظيمه واجلاله عن أنْ يتحمّل رؤيته مَنْ كتب عليه


1- الرازي، مفاتيح الغيب 14: 231.

ص:71

الفناء، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن اللَّه ورسوله في دار الآخرة، وليست الرؤية من النقائص على ما يدّعيه نفاتها، فهي ليست نقصاً في المخلوق، بل هي كمال، وكلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أنْ يتّصف به الخالق فالخالق أولى (1).

يلاحظ عليه: بأنه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء، مع اطلاق الآية، ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحمّلها الوجود الامكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين.

وما ذكره في آخر كلامه من أنّ كلّ كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أن يتّصف به الخالق فالخالق أولى به صحيح من حيث الضابطة والقانون، لكنّه باطل من حيث التطبيق على المورد، فإنّ ما يوصف به المخلوق على قسمين: فمنه ما يكون كمالًا له ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً، فاللَّه أولى بأن يوصف به، ومنه ما لا يكون كمالًا له ككونه مرئياً للغير، فلا يوصف به سبحانه، ولو افترضنا كونه كمالًا للأوّل، لكنّه يكون موجباً للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان، تعالى اللَّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

وكان الأولى للكاتب وأشباهه أن لا يخوضوا غمار هذه المسائل التي تحتاج إلى قدر كبير من التفكّر والعناية الخاصّة.

إذا لم تستطع أمراً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع


1- الدكتور أحمد بن ناصر، رؤية اللَّه تعالى: 47- 48.

ص:72

4- توبته لأجل طلب الرؤية:

إنّ موسى عليه السلام بعدما أفاق، أخذ بالتنزيه أولًا والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله، كما أنّ الظاهر من قوله: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» إنه أوّل المصدّقين بأنه لا يرى بتاتاً.

وللباقلاني أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري كلاماً في تفسير التوبة، أشبه بالتفسير بالرأي، قال:

يحتمل إنّ موسى تاب لأجل أنه ذكر ذنوباً له قد قدّم التوبة منها، فجدّد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة (1).

لكن كلّ ما ذكره وجوه لا يتحمّلها ظاهر الآية، وإنّما تورّط فيها لأجل دعم المذهب، وهذا هو الذي ندّد به النبيّ الأكرم وقال: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»، ومثله قول الرازي في تفسير قوله:

«وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» بأنه لا يراك أحدٌ في الدنيا، أو أوّل المؤمنين، بأنه لا يجوز السؤال منك إلّاباذنك (2).

شبهة المخالفين:

اشارة

قد تقدّم أنّ الآية استدلّ بها النافون والمثبتون، وقد تعرّفت على


1- الباقلاني ت/ 403، التمهيد: 270- 271.
2- الرازي، مفاتيح الغيب 14: 235 بتلخيص، لاحظ خاتمة المطاف تجد فيها كلمات السلف الصالح في تفسير التوبة.

ص:73

استدلال النافين، وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالًا علمياً، وإنّما يرجع محصّل كلامهم إلى ابداء شبهتين هما:

الشبهة الأُولى: لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم عليه السلام
اشارة

إنّ الآية دالة على أنّ موسى عليه السلام سأل الرؤية، ولا شكّ أنّ موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّه تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها، وحيث سألها علمنا أنّ الرؤية جائزة على اللَّه تعالى (1).

والاستدلال بطلب موسى إنّما يكون متقناً إذا تبيّن أنه عليه السلام طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه، فعندئذٍ يصلح للتمسّك به ظاهراً، وأنّى للمستدلّ اثبات ذلك، مع انّ القرائن تشهد على أنه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرّين على ذلك على وجه يأتي بيانه، وتوضيحه يتوقّف على بيان أُمور:

1- أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولًا (2).

2- أنه سبحانه أتْبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانياً (3).

3- ثمّ نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلًا لميقاته سبحانه وقال: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةَ قَالَ


1- مفاتيح الغيب 14: 229.
2- الأعراف: الآية 143.
3- الأعراف: الآيات 148- 154.

ص:74

رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» (الأعراف/ 155).

والإجابة الحاسمة تتوقّف على توضيح أمر آخر وهو: هل كان سؤال موسى الرؤية مستقلًا عن طلب القوم الرؤية، أم لا صلة له بطلبهم؟

من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين، بل المهم، وجود الصلة بين السؤالين وعدمها، وكون الثاني من توابع السؤال الأوّل.

والظاهر بل المقطوع به هو الأوّل، ويدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: سياق الآيات ليس دليلًا قطعيا

إنّ ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقُّق قصة العجل، لقوله سبحانه: «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ» (النساء/ 153)، فإن تخلل لفظة «ثم» حاك عن تأخّرها عن الذهاب، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنّ السياق ليس دليلًا قطعياً لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدّم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.

فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا

ص:75

عن عبادة العجل فقالوا في الميقات: «أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعطِهِ أَحَداً قَبْلنَا ...» (1)

ليس بشي ء، وقد عرفت تصريح الآية على تقدّم سؤالهم الرؤية على عبادته.

الثاني: استقلال السؤالين غير معقول

انّ لاحتمال استقلال السؤالين صورتين:

الأُولى: أن يتقدّم موسى بسؤال اللَّه الرؤية لنفسه ثمّ يَحدث ما حدث، من خروره صعقاً وإفاقته وإنابته ثمّ إنّه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يُرِي اللَّه لهم جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.

الثانية: عكس الصورة الأُولى، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثمّ يسألونه رؤية اللَّه جهرة فيحدث ما حدث ثمّ هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيُخاطب بقوله: «لَنْ تَرَانِي وَلكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ».

انّ العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية.

أما الأُولى، فلو كان موسى متقدّماً في السؤال وسمع من اللَّه ما خاطبه به بقوله «لَنْ تَرَانِي» كان عليه أن يذكّر قومه بعواقبِ السؤال، وأنه سألها ربّه ففوجئ بالغشيان، مع أنه لم يذكرهم بشي ء مما جرى عليه


1- الرازي، مفاتيح الغيب 14: 239.

ص:76

حين طلبهم، ولو ذكّرهم لما سكت عنه الوحي.

أمّا الثانية: فهو كذلك، لأنه لو كان قد تقدّم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهياً فلا يصحّ في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلًا.

وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلّين، وإنّما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتّب وصلة، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأوّل، وعندئذٍ لا يدلّ سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه.

وتوضيح ذلك: أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللَّه كلّمه وقرّبه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعتَ، فاختار منهم سبعين رجلًا لميقاته وسأله سبحانه أن يكلِّمه، فلما كلّم اللَّه وسمع القوم كلامه قالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية:

1- «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» (البقرة/ 151).

2- «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» (البقرة/ 55).

3- «يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ» (النساء/ 153).

ص:77

4- «وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» (الأعراف/ 155).

إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلّم موسى عليه السلام حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً، وإنّما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم، وهو القائل: «قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ».

فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد اصابة الصاعقة السائلين، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى، وعندئذٍ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأُمّ عينيه ما رأى؟ كلا، وكيف يصحّ له أن يسأله وقد وصف السؤال بالسفاهة، فلم يبق هناك إلّا احتمال آخر، وهو انّه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته للَّه مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد اخباره بالرؤية (1)، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أنّ موسى لم يُقْدِم على السؤال إلّاباصرارٍ منهم لكي يسكتهم، لذلك لم يتوجه إلى الكليم أيُّ تَبَعة ولا مؤاخذة، بل خوطب بقوله «لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ


1- أو لتستمعوا النصّ باستحالة ذلك من عند اللَّه كما سيوافيك في كلام الزمخشري.

ص:78

فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي».

وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام هنا كلام حول سؤال موسى:

قال عليّ بن محمّد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليهما السلام، فقال له المأمون: يا ابن رسول اللَّه أليس من قولك انّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول اللَّه عزّ وجلّ «وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي» كيف يجوز أن يكون كليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام لا يعلم أنّ اللَّه- تعالى ذكره- لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا عليه السلام: «إنّ كليم اللَّه موسى بن عمران عليه السلام علم أنّ اللَّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار، ولكنّه لما كلّمه اللَّه عزّ وجلّ وقرّ به نجيّاً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللَّه عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلًا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سينا، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى عليه السلام إلى الطور وسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه، فكلّمه اللَّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأنّ اللَّه عزّ وجلّ أحدَثَه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلامَ اللَّه حتى نرى اللَّه جهرةً، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللَّه عزّ وجلّ عليهم

ص:79

صاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة اللَّه إيّاك، فأحياهم اللَّه وبعثهم معه، فقالوا:

إنّك لو سألت اللَّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى عليه السلام: يا قوم إنّ اللَّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنّما يعرف بآياته ويعلم باعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى عليه السلام: يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللَّه جلّ جلاله إليه: يا موسى إسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى عليه السلام: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكِ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ (بآية من آياته) جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ (يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» منهم بأنّك لا تُرى».

فقال المأمون: للَّه درّك يا أبا الحسن، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (1)

.وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلّا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلّالًا وتبرأ من فعلهم، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لابدّ، ولن نؤمن حتى نرى اللَّه جهرةً، فأراد


1- الصدوق، التوحيد: 121 برقم 24 باب ما جاء في الرؤية.

ص:80

أن يسمعوا النصّ من عند اللَّه باستحالة ذلك وهو قوله: «لَنْ تَرَانِي» ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» (1).

وعلى كلّ تقدير فما ذكره صاحب الكشّاف قريب ممّا ذكرناه، وكلا البيانين يشتركان في أنّ السؤال لم يكن بدافعٍ من نفس موسى، بل بضغط من قومه.

ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال:

ظاهر الحال يقتضي أنْ تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدّمة، لأنّ الألْيَق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأُولى في وضع واحد ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأمّا ذكر بعض القصة (سؤال موسى الرؤية) ثمّ الانتقال منها إلى قصة أُخرى (اتّخاذ العجل ربّاً) ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى بقيّة الكلام في القصة الأُولى (سؤال قوم موسى) يوجب نوعاً من الخَبْط والإضطراب، والأَولى صون كلام اللَّه تعالى عنه (2).

والجواب: أنّه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من آية 142 وختمها في الآية 155، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو ابراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمّة في حياة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه


1- الزمخشري، الكشّاف 1: 573- 574 ط مصر.
2- الرازي، مفاتيح الغيب 15: 70.

ص:81

بطلب موسى.

*** استدلال النافين، وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالًا علمياً، وإنّما يرجع محصّل كلامهم إلى ابداء شبهتين هما:

الشبهة الثانية: تجلّيه على الجبل

إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له، فلمّا رآه (سبحانه) اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمرُ كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية، وأقصى ما في الباب أنْ يقال: الجماد جماد، والجماد يمتنع أن يَرى شيئاً، إلّاأن نقول لا يمتنع أن يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات اللَّه (1).

لكن يلاحظ على هذا الكلام: انّ ما ذكره من رؤية الجبال للَّه تعالى مع افتراضه الحياة والعقل والفهم للجبل شي ء نسجه فكره، وليس في الآية أيّ دليل عليه، والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي وَرِثها، وظاهر الآية أنّه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه لا أنّه رآه وشاهده.

وأمّا التجلّي، فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمّل تجلّيه بفعله وقدرته فالأولى أن لا يتحمّل تجلّيه بذاته، وعندئذٍ فمن المحتمل جداً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله، فعند ذلك لا يدلّ أنّ تجلّيه للجبل كان بذاته.

أضِفْ إلى ذلك أنّ أقصى ما تُعطيه الآية هو الإشعار بذلك، لذا لا


1- الرازي، مفاتيح الغيب 24: 232.

ص:82

يمكن التمسك به وطرح الدلائل القاطعة عقلًا ونقلًا على امتناع رؤيته.

إلى هنا تمّ ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية، وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي، وتعرّفت فيه على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار.

ص:83

رؤية اللَّه في الذكر الحكيم

دراسة أدلة المثبتين

7 الآية الأُولى: إلى ربّها ناظرة

استدلّ القائلون بجواز الرؤية بآيات متعدّدة والمهم فيها هو الآية التالية، أعني قوله سبحانه: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ» (القيامة/ 20- 25).

يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد: إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويُقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام»، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى»، فيحمل على الرؤية (1).

أقول: لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية ونافيها، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام، فإنّ المثبتين


1- القوشجي، شرح التجريد: 334.

ص:84

يُركّزون على أنّ الناظرة بمعنى الرؤية، كما أنّ نافيها يفسّرونها بمعنى الانتظار، مع أنّ تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثّر في اثبات مدّعيها كما سيظهر، والحقّ عدم دلالتها على جواز رؤية اللَّه بتاتاً، وذلك لأمرين:

الأول: أنّه سبحانه استخدم كلمة «وجوه» لا «عيون»، فقسم الوجوه إلى قسمين: وجوه ناضرة، ووجوه باسرة، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه، والعجب أنّ المستدلّ غفل عن هذه النكتة التي تحدّد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردّد بين المعنيين، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريد منه الرؤية بالعيون والأبصار، بل كلما أُريد منه الرؤية نُسب إليهما.

الثاني: لا نشك أنّ «الناظرة» في قوله «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» بمعنى الرائية، ونحن نوافق المثبتين بأنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يكون بمعنى الرؤية، لكن الذي يجب أن نُلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي، ولكن كثرة الرماد مراد استعماليّ لا جِدّيّ، والمراد الجِدّي هو ما اتّخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فلا نقول: إنّ القائل أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعدّ أوساخاً ملوثة لبيته، فيكون قد ذمّه دون أن يمدحه، بل يجب علينا أن

ص:85

نقول: بأنه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء.

والآن سنوضح مفاد الآية ونبيّن ماهو المراد الاستعمالي والجدي فيها، وذلك لا يعلم إلّابرفع ابهام الآية بمقابلها، فنقول: إنّ هناك ستة آيات تقابلها ثلاثة، وهي كالآتي:

1- «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةِ» يقابلها: «وَتَذَرُونَ الْآخِرَةِ».

2- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ» يقابلها: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ».

3- «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» يقابلها: «تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ».

فلا شك أنّ الآيات الأربع الأُول واضحة لا خفاء فيها، وانّما الابهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث، فهل المراد منه جداً هو الرؤية، أو انها كناية عن انتظار الرحمة؟ والذي يعيّن أحد المعنيين هو الشقّ الثاني من التقابل الثالث، أعني «تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ» فهو صريح في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم، ويظنّون نزوله. وهذا الظن لا ينفكّ عن الانتظار، فكلّ ظانّ لنزول العذاب منتظر، فيكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربهم، أي يرجون رحمته، وهذا ليس تصرّفاً في الآيات ولا تأويلًا لها، وإنّما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها، وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أُخرى، غير أنّ الجميع سبيكة واحدة.

1- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» يقابلها: «ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».

ص:86

2- «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ» يقابلها: «تَرْهَقُهَا قَترَةٌ» (1).

فإنّ قوله «ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ» قائم مقام قوله «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» فيرفع ابهام الثاني بالأوّل.

3- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ» يقابلها: «عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةٌ» (الغاشية/ 2- 4).

4- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ» يقابلها: «لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ» الغاشية/ 8- 10).

أُنظر إلى الإنسجام البديع، والتّقابل الواضح بينهما، والهدف الواحد، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضر ومسفر، وناعم وإلى باسر، وأسود (غبرة) وخاشع.

أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية:

إلى ربّها ناظرة، ضاحكة مستبشرة، في جنةٍ عالية.

وأمّا جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية:

تظنّ أن يفعل بها فاقرة، ترهقها قترة، تصلى ناراً حامية.

أفبعْدَ هذا البيان يبقى شكّ في أنّ المراد من «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» هو انتظار الرحمة!! والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية، ويغضّ النظر عمّا حولها من الآيات، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة اثبات المدّعى


1- عبس: 38- 40.

ص:87

بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها.

ويدلّ على ذلك أنّ كثيراً ما تستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب، وإليك بعض ما ورد في ذلك:

وجوه بها ليل الحجاز على الهوى إلى ملك كهف الخلائق ناظرة

وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن يأتي بالفلاح

فلا نشكّ أنّ قوله: وجوهٌ ناظرات بمعنى رائيات، ولكن النظر إلى الرحمن هو كناية عن انتظار النصر والفتح.

إنّي إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

فلا ريب أنّ اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية، ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين، بل الصبر والانتظار حتى يعينه.

قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (آل عمران/ 77)، والمراد من قوله: «لَايَنْظُرْ إِلَيْهِمْ» هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطّفه عليهم، لا عدم مشاهدته إيّاهم، لأنّ رؤيته وعدمها ليس أمراً مطلوباً لهم حتى يهدّدوا بعدم نظره سبحانه إليهم، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم، على أنّ تفسير قوله «لَايَنْظُرْ إِلَيْهِمْ» ب «لا يراهم» يستلزم الكفر، فإنّه سبحانه يرى الجميع «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ».

والحاصل: أنّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى بالمراد

ص:88

الاستعمالي والجدّي هو الرؤية على أقسامها، وإذا أُسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه فيراد به الرؤية استعمالًا والانتظار جدّاً.

ثمّ إنّ لصاحب الكشاف هنا كلمةٌ جيدة، حيث يقول بهذا الصدد: يقال: «أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله:

وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماً

وقال: سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلُق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيينتي نويظرة إلى اللَّه واليكم، تقصد راجية ومتوقّعة لاحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: أنا أنظر إلى اللَّه ثمّ إليك، وأتوقّع فضل اللَّه ثمّ فضلك (1).


1- الزمخشري، الكشّاف 3: 294.

ص:89

رؤية اللَّه في الذكر الحكيم

دراسة أدلة المثبتين

8 خمس آيات على طاولة التفسير

اشارة

اتّفق المحقّقون على أنه لا يُستدلُّ بآية على عقيدة إسلامية إلّا إذا كانت الآية واضحة الدلالة جليّة المرمى، لما عرفت من أنّ المطلوب في باب العقائد هو الاعتقاد، وهو متوقّف على الإذعان، ولا يحصل إلّا اذا كان هناك سبب قطعي له.

وعلى ذلك الأصل، كان المرتقب من أصحاب القول بالرؤية التمسّك بما له ظهور على مدّعاهُم ولو كان ذلك الظهور بدائياً أو زائلًا حين التمعّن به، ولكن من المؤسف إنّنا نراهم يتمسّكون بما لا دلالة له على مدّعاهم، بل لا صلة بينه وبين القول بالرؤية، وعلى ذلك سنتناول في هذاالفصل هذا القسم من الآيات ونفصّله عمّا سبق للفرق بين أدلّتهم.

الآية الأُولى: أمره سبحانه موسى بالشكر له

«قَالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ

ص:90

مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (الأعراف/ 144).

قال الرازي: إعلم إنّ موسى عليه السلام لمّا طلب الرؤية ومنعهُ اللَّه منها، عدّد اللَّهُ عليه وجوه نِعَمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغلَ بذكرها كأنّه قال: إن كنتُ قد منعتُك الرؤية فقد أعطيتُك من النِعم كذا وكذا، فلا يضيقُ صدرُك بسبب منع الرؤية، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصّصتُك بها، واشتغِل بشكرها، والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية، وهذا أيضاً أحد ما يدلُّ على أنّ الرؤية جائزةٌ على اللَّه تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة (1).

وقد تبعه اسماعيل البروسي فقال في تفسير قوله «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ»: أن اشكُر، يبلغك إلى ما سألتَ من الرؤية، لأنّ الشكر يستدعي الزيادة، لقوله تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» (ابراهيم/ 7) والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ» (يونس/ 26)، وقال عليه الصّلاة والسلام: «الزيادةُ هي الرؤية، والحسنى هي الجنّة» (2).

ومن المثبتين للرؤية من يستحسن مواقفَ المستدلّين بهذه الآية ويقول: إنّ الاستدلال بهذه الآية على الجواز قويّ، لأنّ اللَّه تعالى عدّد لموسى عليه السلام هذه النعم التي أنعم اللَّهُ بها عليه لما منعه من حصولٍ جائزٍ طلبه منه، فذكر ما ذكر تسليةً له، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر،


1- الرازي، مفاتيح الغيب 14: 235.
2- اسماعيل حقي البروسي، روح البيان 3: 239؛ وتبعه الآلوسي في روح المعاني لاحظ 9: 55.

ص:91

وذلك مثلُ خطابه تعالى لنوح «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» (هود/ 45- 46).

وقوله تعالى لابراهيم عليه السلام حين قال: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (البقرة/ 260)، والفرق بين خطاب اللَّه لموسى عليه السلام وبين خطابه لنوح وابراهيم عليه السلام ظاهر (1).

وقد نقلنا كلام هؤلاء بالتفصيل ليقف القارئ على كيفية تمسّكهم بما لا دلالة له على مطلوبهم، والشاهد على ذلك أنّا لو عرضنا الآية على أيّ عربيّ مخاطب بالقرآن لا ينتقلُ ذهنه إلى ما يدّعون، ويرى أنّ إثبات الرؤية بها تحميل للنظرية على الآية وليس تفسير لها، وإليك نقاط الضعف في كلماتهم:

أمّا الرازي، فمن أين يدّعي أنّ الآية في مقام مواساة موسى لئلّا يضيق صدره بسبب منع الرؤية؟ لو لم نقل أنّ الآية وردت على خلاف ما يدّعيه، فإنّما وردت في مورد الامتنان على موسى وموعظة له أنْ يكتفي بما اصطفاه اللَّه به من رسالاته، وكلامه، ويشكره ولا يزيد عليه.

هذا هو الظاهر من الآية، ولا وجه لحمل الآية بكونها في صدد المواساة بعدما صدر من موسى في الآية المتقدّمة عليها قوله: «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» قال يا موسى انّي اصطفيتك على الناس ..


1- الدكتور أحمد بن ناصر، رؤية اللَّه: 92.

ص:92

فمقتضى ما صدر من موسى من تنزيهٍ وتوبةٍ وإيمانٍ بأنه لا يُرى هو موعظته بالاكتفاء بما أُوتي ولا يزيد عليه، لا أن يعتذر سبحانه إليه ويواسيه بحرمانه رؤيته.

وأمّا ما ذكره صاحب روح البيان فعجيب جدّاً، فإنّ استدلاله يتوقّف على أنّ المراد من «زيادة» في قوله سبحانه «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ» هو الرؤية، وهذا أول الكلام، وسيوافيك أنّ المراد منها هي الزيادة على الاستحقاق، فانتظر حتى يأتيك البيان.

وأمّا ما ذكره الدكتور تأييداً لما ذكره الرازي فَضَعْفُه واضح، لأنّ الآية ليست بصدد مواساته، وأمّا اختلاف الخطاب بينها وبين ما ورد في طلب نوح، هو أنّ طلب موسى لَمّا كان نتيجة ضغطٍ من قومه دون طلب نوح، صار الاختلاف في مبدأ الطلبين سبباً لاختلاف الخطابين، فخوطب نوح بخطاب عتابي دون موسى عليهما السلام، وإنْ كان العتاب على ترك الأَولى.

الآية الثانية: الحسنى والزيادة

«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (يونس/ 26).

فقد فسّرت الحسنى بالجنّة، والزيادة بالنظر إلى وجه اللَّه الكريم، فقد روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي قال: «إذا أُدخل أهل الجنّة قال اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم، فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنّة وتُنْجِنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما

ص:93

أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من التنظّر إلى ربّهم عزّ وجلّ».

وفي رواية ثمّ تلى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيَادَةٌ» (1).

إنّ القرآن الكريم كتاب عربي مبين وهو تبيان لكلّ شي ء، كما هو مقتضى قوله سبحانه: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» (النحل/ 89)، وحاشا أن يكون تبياناً لكلّ شي ء ولا يكون تبياناً لنفسه، وسياق الآية يدلّ على أنّ المراد من الزيادة هو الزيادة على الاستحقاق، فقد جعل سبحانه الجزاء حقاً للعامل- لكن بفضله وكرمه- وقال: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (آل عمران/ 199)، ثمّ جعل المضاعف منه حقاً للعامل أيضاً، وهذا أيضاً بكرمه وفضله، وقال: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» (الأنعام/ 160). وبالنظر إلى هذه الآيات يتجلّى مفاد قوله سبحانه «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى» استحقاقاً للجزاء والمثوبة الحسنى «وَزِيَادَةً» على قدر الاستحقاق، قال سبحانه: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (النساء/ 174).

وبغضّ النظر عمّا ذكرنا من تفسير الزيادةِ على الاستحقاق أنّ ما بعدَ الآية قرينة واضحة على أنّ المراد من «زيادة» هو الزيادة على الاستحقاق، ومفاد الآيتين هو تعلّق مشيئته سبحانه على جزاء المحسنين بأكثر من الاستحقاق وجزاء المسيئين بقدر جرائمهم، قال سبحانه بعد هذه الآية: «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ


1- مسلم، الصحيح 1: 163؛ أحمد، المسند 4: 332.

ص:94

اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (يونس/ 27).

أفبعد هذا السياق الرافع للابهام يصحُّ لكاتب عربي واعٍ أنْ يستدلّ بالآية على الرؤية!!

وبذلك يظهر عدم دلالة ما يشابه هذه الآية مدلولًا على مدّعاهم، قال سبحانه: «أُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ» (ق/ 34- 35) فإنّ المراد أحد المعنيين، إمّا زيادة على ما يشاؤونه ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغهم أمانيُّهم، أو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم.

أما ما رواه مسلم فسيوافيك القضا الحق عند البحث عن الرؤية في الروايات، وأنّ الآحاد في باب العقائد غير مفيدة، خصوصاً إذا كانت مضادة للبرهان.

الآية الثالثة: رؤية الملِك

«وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» (الانسان/ 20).

قال الرازي: فإنّ إحدى القراءات في هذه الآية في «ملكاً» بفتح الميم وكسر اللّام، وأجمع المسلمون على أنّ ذلك المَلِك ليس إلّااللَّه تعالى، وعندي إنّ التمسّك بهذه الآية أقوى من التمسّك بغيرها (1).

وقال الآلوسي عند تفسيرها: وقيل هو النظر إلى اللَّه عزّ وجلّ،


1- الرازي، مفاتيح الغيب 13: 131، والعجيب أن الرازي لم يذكر تلك القراءة عند تفسير الآية في محلّها أي سورة الانسان.

ص:95

وقيل غير ذلك (1).

ويلاحظ على كلامه: أنّ المسائل العقائدية لا يستدلّ عليها إلّا بالأدلّة القطعية لا بالقراءات الشاذّة التي لا يحتجُّ بها على الحكم الشرعي فضلًا عن العقيدة، وسياق الآية يدلّ على أنه هو المُلْك بضمّ الميم وسكون اللّام وكأنّه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف وملكاً كبيراً لا يقدر قدره.

والآية نظير قوله: «فَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» (الأحزاب/ 47).

الآية الرابعة: آيات اللقاء

1- «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (الكهف/ 110).

2- «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (البقرة/ 223).

3- «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» (الأحزاب/ 44).

4- «وَقَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مَلَاقُوا اللَّهَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (البقرة/ 249).

وجه الاستدلال: أنّ الآيات تنسب اللقاء إلى اللَّه تعالى، ومقتضى


1- الآلوسي، روح المعاني 29: 161.

ص:96

الأخذ بالظاهر هو تحقّق اللقاء بالمشاهدة والمعاينة.

لكنّ هذا الاستدلال يلاحظ عليه: أنّ اللقاء كما أُضيف في هذه الآيات إليه سبحانه، كذلك أُضيف إلى غيره سبحانه في سائر الآيات، فتارةً أُضيف إلى لفظ الآخرة، قال سبحانه: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ» (الأعراف/ 147) وقال: «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ» (المؤمنون/ 33)، وأُخرى إلى لفظ «اليوم» قال سبحانه: «يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» (الزمر/ 71) وقال سبحانه: «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» (الجاثية/ 34) وعلى ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء، بمعنى حضور الناس في يوم القيامة للمحاسبة والمجازاة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وإنّما سُمِّي هذا بلقاء الرب أو لقاء اللَّه لما تعلّقت مشيئته على مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم، فبما أنّه سبحانه يجزي المحسن والمسي ء في ذلك اليوم فكأنهم يلقونه سبحانه فيه لا قبله.

وفي نفس الآيات التي استدلّ بها ذلك قرينة واضحة على أنَّ المراد من الآيات هو الحضور يوم القيامة، وهي أنّه سبحانه يأمر لمن يرجو لقاء الربّ بالعمل الصالح ويقول: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً»، أي فليستعدّ لذلك اليوم بالعمل الصالح، كما أنه في آية أُخرى يأمر بتقديم شي ء لهذا اليوم ويقول: «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ»، وذلك لأنّ مقتضى العلم بالحشر في ذلك اليوم والمحاسبة والمجازاة هو تقديم الأعمال الصالحة.

والذي يدلّ على أنّ المراد من اللقاء ليس هو الرؤية، هو أنّ الرؤية

ص:97

تختصّ بالمؤمنين ولا تعمّ الكافرين، مع أنّه سبحانه يُعمِّم اللقاء بالمؤمن والكافر فيقول: «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» (التوبة/ 7) فلو كان المراد من لقاء اللَّه هو مشاهدته ورؤيته فيلزم أن يكون المنافق مشاهداً له، فلم تبق أيّ فضيلة للمؤمنين، مع أنّ القائلين بالرؤية يُزمِّرون بأنّ الرؤية فضيلة وزيادة تختصّ بالمؤمنين.

ولما ضاق الخناق على بعضهم قال بوجود رؤيتين: إحداهما عامة للمؤمن والكافر، وهي الرؤية يوم القيامة، والأُخرى خاصة بالمؤمنين وهي الرؤية في الجنّة (1). وهو كما ترى، فإنّ ظرف الرؤية للمؤمنين في رواية أبي هريرة هو يوم القيامة كما سيوافيك، وفيه يرى المؤمنون خالقهم على صورته الواقعيّة.

وفي الختام نقول: إنّ منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلى اللَّه، قال سبحانه: «إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» (البقرة/ 156) ولم نر سلفيّاً أو أشعريّاً يستدلّ بها على رؤية اللَّه سبحانه، مع أنّ وزان الجميع واحد.

الآية الخامسة: آية الحَجْب

«كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيم ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» (المطففين/ 14- 17).

هذه الآية استدلّ بها غيرُ واحد من القائلين بالرؤية.


1- الدكتور أحمد بن ناصر، رؤية اللَّه تعالى: 240.

ص:98

قال الآلوسي: لا يرونه تعالى وهو حاضرٌ ناظرٌ لهم بخلاف المؤمنين، فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية، لأنّ المحجوب لا يرى ما حُجِبَ، إذْ الحَجْب: المنع، والكلام على حذف مضاف، أي عن رؤية ربّهم الممنوعة، فلا يرونه سبحانه، واحتجّ بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب، وإلّا فلو حجب الكلّ لما أَغنى هذا التّخصيص، وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوماً بالسُخْط دلّ على أنّ قوماً يرونه بالرّضا، وقال أنس بن مالك: لما حجب عزّ وجلّ أعداءه سبحانه فلم يروه تجلّي جلّ شأنه لأوليائه حتى رأوه عزّ وجلّ (1).

ويلاحظ على هذا الكلام: أنّ الآية بصدد تهديد المجرمين وانذارهم، وهذا لا يحصل إلّابتحذيرهم وحرمانهم من رحمته، وتعذيبهم في جحيمه، وأما تهديدهم بأنّهم سيحرمون عن رؤيته تبارك وتعالى فلا يكون مؤثراً فيمن غلبت على قلبه آثار المعاصي والمآثم فلا يفكر يوماً باللَّه ولا برؤيته، وعلى ذلك، فالمراد أنّ هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته واحسانه وكرمه، وبعدما مُنِعوا من الثواب والكرامة يكون مسير هؤلاء إلى الجحيم، ولذلك رتّب على خيبتهم وحرمانهم قوله: «إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيم ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ».

هذه هي الآيات التي وقعت ذريعة للاستدلال على العقيدة المستوردة من الأحبار والرهبان إلى المسلمين، فزعم المحدّثون والمغترون كونها عقيدة اسلامية، فحشروا الآيات للبرهنة عليها سواء


1- الآلوسي، روح المعاني 30: 73.

ص:99

كانت بها دلالة أم لا.

ولو كان المستدلّون متجرّدين عن عقائدهم لفهموا أنّ هذه الآيات نزلت لبيان مفاهيم أخلاقية واجتماعية وسوق المجتمع إلى العمل الصالح وعدم التورّط في المعاصي، وأين هي من الدلالة على أصل كلامهم حول الرؤية؟!

إنّ اللَّه سبحانه ذكر نعم الجنّة الكثيرة ومقامات المؤمنين، ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم؟

ص:100

9 رؤية اللَّه في الأحاديث النبويّة

اشارة

قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه، وأنه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها كان يستعظم ذلك ويستفظعه اجمالًا، وعندما يطرحها تفصيلًا يعدّها أمراً محالًا، كما عرفت أنّ ما تمسّك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.

بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك، لكن الكلام في حجية الروايات التي تعارض الذكر الحكيم وتباينه، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمناً على السنن المرويّة عن الرسول صلى الله عليه و آله، التي دوّنت بعد مضي 143 سنة من رحيله صلى الله عليه و آله ولم تُصَن عن دسّ الأحبار والرهبان، قال سبحانه: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» (المائدة/ 48) وقال تعالى: «إِنَ

ص:101

هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» (النمل/ 76).

ولا يعني ذلك، حذف السنة من الشريعة ورفع شعار حسبنا كتاب اللَّه، بل يعني التأكّد من صحّتها ثمّ التمسّك بها في مقام العمل.

وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية:

روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنّم» بسنده عن أبي هريرة قال: قال أُناس: يا رسول اللَّه هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: «هل تُضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: «فإنّكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع اللَّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس، ويتّبع من كان يعبد القمر، ويتّبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها، فيأتيهم اللَّه في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه، فيأتيهم اللَّه في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ...» إلى أن يقول: «ويبقى رجلٌ مُقْبل بوجهه على النار فيقول: يا ربّ قد قَشَبَني ريحها، وأحرقني ذكاوها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو اللَّه فيقول: لعلّك إن أعطيتُك أن تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثمّ يقول بعد ذلك: يا ربّ قرّبني إلى باب الجنّة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول: لعلّي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزّتك لا أسألك غيره، فيعطي اللَّه من

ص:102

عهود ومواثيق أنْ لا يسأله غيره، فيقرّبه إلى باب الجنّة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت، ثمّ يقول: ربّي أدخلني الجنّة، ثمّ يقول:

أوَليسَ قد زعمت أنْ لا تسألني غيره، ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، فيقول:

يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك (اللَّه)، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ...» الحديث (1).

ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، مع اختلاف يسير (2).

ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه: «حتى إذا لم يبق إلّامن كان يعبد اللَّه تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربُّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون تتبع كلّ أُمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئاً، مرّتين أو ثلاثاً، حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه، إلّاأذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلّاجعل اللَّه ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ...» الحديث (3).

وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص، ورواه أحمد في مسنده (4).


1- البخاري، الصحيح 8: 117 باب الصراط جسر جهنّم.
2- صحيح مسلم 1: 113 باب معرفة طريق الرؤية.
3- صحيح مسلم 1: 115 باب معرفة طريق الرؤية.
4- مسند أحمد بن حنبل 2: 368.

ص:103

تحليل الحديث

إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته وتعدّدت نقلته لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:

1- إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العملة عليه، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشي ء، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين، إلّاإذا بلغ إلى حدّ يورِث العلم والاذعان، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

2- إنّ الحديث مخالف للقرآن، حيث يثبت للَّه صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين رحمه الله.

3- ماذا يريد الراوي في قوله: «فيأتي اللَّه في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم»؟ فكأنّ للَّه سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها وينكرون البعض الآخر، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ، أم في الآخرة؟

4- ماذا يريد الراوي من قوله: «فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه ...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه.

ص:104

5- كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلّامة السيد شرف الدين رحمه الله حيث قال: إنّ الحديث ظاهر في أنّ للَّه تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغير، وانّه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلًا لهم في صورةٍ غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل، فيقول لهم: أنا ربكم، فينكرونه متعوّذين باللَّه منه، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون، فيقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً: نعم أنت ربّنا، وإنّما عرفوه بالساق إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالّة عليه، فيتسنّى حينئذٍ السجودُ للمؤمنين منهم دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون اللَّه ماثلًا فوقهم بصورته التي يعرفون لا يُمارونَ فيه، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر، ماثلين فوقهم بجرميهما النيّرين ليس دونهما سحاب، وإذا به بعد هذا يضحك الربّ ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على اللَّه تعالى، ولا على رسوله، باجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم (1).

*** 2- روى البخاري في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة وفضيلتها، عن قيس (ابن أبي حازم) عن جرير قال: كنّا عند النبي صلى الله عليه و آله فنظر إلى القمر ليلة- يعني البدر- فقال: «إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أنْ لا تغلبوا على صلاة قبل


1- كلمة حول الرؤية: 65، وهي رسالة قيّمة في تلك المسألة، وقد مشينا في ضوئها، رحم اللَّه مؤلّفها رحمة واسعة.

ص:105

طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثمّ قرأ: وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» (1).

وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه معارضاً للكتاب ضعيف سنداً وإن رواه الشيخان، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده الذي ترجمه ابن عبد البرّ وقال: قيس بن أبي حازم الأخمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي صلى الله عليه و آله في عهده وصدق إلى مصدِّقه وهو من كبار التابعين مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانياً (2).

وقال الذهبي: قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ثقة حجة كاد أنْ يكون صحابياً، وثّقه ابن معين والناس، وقال عليّ بن عبد اللَّه بن يحيى بن سعيد: منكر الحديث ثمّ سمّى له أحاديث استنكرها، وقال يعقوب الدوسي: تكلّم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه، وقال: له مناكير فالذين أطروه عدّوها غرائب، وقيل: كان يحمل على عليّ رضى الله عنه، إلى أن قال: والمشهور أنّه كان يقدّم عثمان، وقال اسماعيل: كان ثَبِتاً، قال:

وقد كبر حتى جاوز المائة وخَرِف (3).

وقد تقدّم أنّ العدل والتنزيه علويان، كما أنّ الجبر والتشبيه أُمويان، وهل يصحّ في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى، معرضاً عن الإمام علي عليه السلام، وعاش حتى خَرِف؟


1- البخاري، الصحيح 1: 111- 115 الباب 26 و 35 من أبواب مواقيت الصلاة ط. مصر؛ ورواه مسلم في صحيحه، لاحظ صحيح مسلم بشرح النووي 5: 136؛ وغيرهما.
2- ابن عبد البر، الاستيعاب 3 برقم 2126.
3- الذهبي، ميزان الاعتدال 3: برقم 6908.

ص:106

أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط.

رؤية اللَّه في روايات أئمة أهل البيت:

إنّ أهل البيت أحد الثقلين (1)، الذين تركهما النبي بعد رحيله وأمر أنْ يُتمسّك بأقوالهم وأفعالهم، وحينما نراجع ما روي عنهم ودوّنه الأثبات من المحدّثين كالشيخ الصدوق (306- 381 ه) في كتاب التوحيد، نجد مرويّاتهم المسندة إلى آبائهم عن عليّ عن النبي، يعارض ما رواه قيس بن أبي حازم، وإليك نماذج من أحاديثهم:

1- روى الصدوق عن عبد اللَّه بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (محمّد الباقر)، عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أيّ شي ء تَعبد؟ قال: «اللَّه»، قال: رأيته؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، لا يُعرف بالقياس،


1- نقل مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم: قام رسول اللَّه ص يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثمّ قال: «أمّا بعد: ألا أيّها النّاس، فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به»، فحثّ على كتاب اللَّه ورغّب فيه ثمّ قال: «وأهل بيتي، أُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، أُذكّركم اللَّه في أهل بيتي» هذا لفظ مسلم. ورواه أيضاً بهذا اللفظ الدارمي في سننه 2: 431- 432 باسناد صحيح، وغيرهما؛ وفي رواية الترمذي وقع بلفظ «وعترتي أهل بيتي» ففي سنن الترمذي 5: 663 برقم 3788 قال رسول اللَّه ص: «إنّي تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

ص:107

ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبِه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللَّه لا إله إلّاهو»، قال: فخرج الرجل وهو يقول: اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته (1).

2- روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: «ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره»، وقال: كيف رأيته؟ قال: «ويلك لا تُدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان» (2).

3- أخرج الصدوق عن عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

قال: «إنّ اللَّه عظيم، رفيع، لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغُون كنهَ عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث، فكيف أصفه بكيف وهو الذي كيَّف الكيف حتى صار كيفاً، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفهُ بأينٍ وهو الذي أيَّن الأينَ حتى صار أيناً، فعرفت الأينَ بما أيّن لنا من الأيْن، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثاً، فعرفت الحيث بما حيّثَ لنا من الحيث، فاللَّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان، وخارج من كلّ شي ء، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار لا إله


1- الصدوق، التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 5، والسائل من الخوارج وهؤلاء كالاماميّة والمعتزلة يذهبون إلى امتناع الرؤية.
2- الصدوق، التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 6، والسائل أحد أحبار إليهود القائلين بجواز الرؤية.

ص:108

إلّا هو العليّ العظيم وهو اللطيف الخبير» (1).

4- أخرج الصدوق عن ابراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى عليهما السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»:

«يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها» (2).

*** «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (سورة ق/ 37)


1- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 14.
2- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 19، وتعرفت على القرينة القطعية التي يرفع بها الابهام عن وجه الآية أعني التقابل فلاحظ.

ص:109

10 الرؤية القلبيّة

اشارة

كان المرتقب من أئمة الحديث والكلام الاشارة إلى قسم آخر من الرؤية الذي لا يتوقّف على الأعين والأبصار، ينالُها الأمثل فالأمثل من المؤمنين، قال سبحانه: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَينَ الْيَقِين» (التكاثر/ 5- 7)، فمن علم عين اليقين يرى لهيب الجحيم من هذه النشأة لا بعين مادية ولا بصر جسماني، إنّما هي رؤية أخبر عنها الكتاب ولا تتوقف على الجهة والمقابلة ولا التجسيم والمشابهة، وليس المراد من الرؤية في الآية العلمَ القطعي، فإنّ العلم إن كان قطعياً غير الرؤية، قال سبحانه: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (الأنعام/ 75).

قال العلّامة الطباطبائي: إنّه تعالى يُثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الانسان، يشعر بالشي ء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء

ص:110

ذلك إنّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجد وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجرّه إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي اكتسبها، والذي يتجلّى من كلامه سبحانه إنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتمّ للصالحين من عباد اللَّه يوم القيامة، فهناك مواطن التشرّف بهذا التشريف، وأمّا في هذه الدنيا والانسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعدُ في طريق هذا العلم لم يتم له حتى يلقى ربه، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ» (الانشقاق/ 6).

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته اللَّه تعالى لنفسه وسمّاه رؤية ولقاء، ولا يهمّنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز، والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن اثبات هذا النوع من العلم باللَّه وتخلو عن الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل، فإنّ العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشي ء بنفسه حتى يكشف عنه في الإسلام، فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية (1).

هذا التفسير للرؤية القلبية ممّا أفاده أُستاذُنا العلّامة الطباطبائي رحمه الله، ولكن ربّما يفسّر بالعلم القطعي الضروري الذي لا يتردّد


1- الطباطبائي، الميزان 8: 252- 253.

ص:111

إليه الريب، كما سننقله عن الشيخ الصدوق توضيحاً للروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت حول الرؤية القلبية، فإليك ما روى عنهم- صلوات اللَّه عليهم-:

إنّ في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام تصريحاً بصحّة الرؤية القلبية، واللائح منها زيادة اليقين بظهور عظمته وقدرته، وإليك البيان:

1- أخرج الصدوق عن يعقوب بن اسحاق، قال: كتبت إلى أبي محمّد (الحسن العسكري) عليه السلام أسأله كيف يعبد ربّه وهو لا يراه؟

فوقّع عليه السلام: «يا أبا يوسف جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى»، قال: وسألته هل رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه؟ فوقّع عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ» (1).

2- أخرج الصدوق عن ابن أبي نصر (البزنطي) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لما أُسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قطُّ، فكشف لي فأراني اللَّه عزّ وجلّ من نور عظمته ما أُحب» (2). وفي ضوء ذلك فالرؤية القلبية شهود نور عظمته في النشأتين، وهو غير ما نقلناه عن العلّامة الطباطبائي.

3- أخرج الصدوق عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول اللَّه إذا نزل عليه الوحي، فقال: «ذاك إذا لم يكن بينه وبين اللَّه أحد، ذاك إذا تجلّى اللَّه له»، قال: ثمّ قال: «تلك النبوّة يا زرارة وأقبل يتخشّع» (3).


1- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15.
2- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15.
3- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15.

ص:112

4- أخرج الصدوق عن محمّد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام: هل رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه عزّ وجلّ، فقال: «رآه بقلبه، أما سمعت اللَّه عزّ وجلّ يقول: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى»، أي لم يره بالبصر (1) ولكن رآه بالفؤاد».

5- أخرج الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في جواب سؤال شخص عن رؤية اللَّه يوم القيامة، فقال في ذيل الجواب: «وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى اللَّه عمّا يصفه المشبّهون والملحدون» (2).

ثمّ إنّ للمحدّث الأكبر الشيخ الصدوق (306- 381 ه) الذي طاف البلاد شرقاً وغرباً وجمع أحاديث الرسول وعترته، كلاماً في الرؤية القلبية، وحكى أنّ محدّثين كبيرين من محدّثي الشيعة كأحمد بن محمّد بن عيسى القمي (المتوفى بعد سنة 280 ه) ومحمّد بن أحمد بن يحيى رووها في جامعهما ولكن لم ينقلها في كتاب التوحيد، يقول:

والأخبار التي رُويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا- رضي اللَّه عنهم- في مصنّفاتهم عندي صحيحة، وأنا تركت ايرادها في هذا الباب خشيةَ أنْ يقرأها جاهلٌ بمعانيها فيكذب بها فيكفر باللَّه عزّ وجلّ وهو لا يعلم (3).


1- ما جاء في الرواية أحد الاحتمالات في تفسير الآية، ولكن الظاهر أنّ فاعل «رأى» هو البصر والمرئي آثاره وآياته بشهادة قوله سبحانه بعده «لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى»، والرواية تحتاج إلى دراسة، ومحمّد بن الفضيل الراوي للحديث مرمي بالغلوّ كما ذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الرضا عليه السلام برقم 35 فلاحظ.
2- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17- 20.
3- الصدوق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17- 20.

ص:113

ثمّ إنّ شيخنا الصدوق فسّر الرؤية القلبية بما يلي:

ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك أنّ الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات، فإذا كان يومُ القيامة كُشف للعباد من آيات اللَّه وأُموره في ثوابه وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتُعلم حقيقة قدرة اللَّه عزّ وجلّ، وتصديقُ ذلك في كتاب اللَّه عزّ وجلّ: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ» (ق/ 22) فمعنى ما روى في الحديث أنه عزّ وجلّ يرى أي يعلم عِلماً يقينياً كقوله عزّ وجلّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل» (الفرقان/ 45) وقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ» (البقرة/ 258) وقوله: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» (الفيل/ 1) وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين (1).

*** هذه مسألة رؤية اللَّه، وهذه أقوال الأُمّة فيها، وهذا خلافهم الممتدّ من العصور الأُولى إلى عصرنا هذا، وهي مسألة كلامية اختلفت فيها أنظار الباحثين ولكلٍّ دليله وبرهانه، والنافي للرؤية ينفي لاستلزامها إثبات التجسيم والتشبيه، مضافاً إلى تضافر الآيات على نفيها بدلالات مختلفة، والمثبت إنّما يُثبتها اغتراراً ببعض الظواهر والروايات الواردة في الصحاح.

ولكن ليس لكلّ من الطائفتين تكفير الأُخرى، لأنّ النافي يستند إلى أدلّة مشرقة تقنع كلّ من نظر إليها بلا نظر مسبق، وقول المثبت وإن


1- الصدوق، كتاب التوحيد: 120 باب ما جاء في الرؤية.

ص:114

كان يستلزم الجهة والتجسيم، لكنّه يقول بها مع التبرّي عن تواليها، متحصناً بقوله: «بلا كيف»، فتكون المسألة مسألة كلامية كسائر المسائل الكلامية.

غير أنّ مفتي السعودية عبد العزيز بن باز غالى في الموضوع، وذلك في الفتوى الصادرة في 8/ 1407 ه المرقم 717/ 2 جواباً على سؤال وجّهه عبد اللَّه بن عبد الرحمن يتعلّق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة، فأفتى: بأن من ينكر رؤية اللَّه سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلّى خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة، وأضاف أنه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الإباضية في عُمان الشيخ أحمد الخليلي، فاعترف بأنّه لا يؤمن برؤية اللَّه في الآخرة، ويعتقد أنّ القرآن مخلوق، واستدلّ لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح»: ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إنّ قوماً يزعمون أنّ اللَّه لا يُرى يوم القيامة، فقال مالك رحمه الله: السيف السيف.

وقال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملى عليّ عبد العزيز بن سلمة الماجشون رسالة عمّا جحدت الجهمية فقال: لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول اللَّه تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ».

وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: إنّي لأرجو أنْ يحجب اللَّه عزّ وجلّ جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه، الذي وعده أولياءه حين يقول: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ».

إلى أن نُقل عن أحمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدّث بحديث

ص:115

عن رجل عن أبي العواطف أنّ اللَّه لا يُرى في الآخرة فقال: لعن اللَّه من يحدّث بهذا الحديث اليوم، ثمّ قال: أَخْزى اللَّه هذا.

وقال أبو بكر المروزي: من زعم أنّ اللَّه لا يُرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر، وقال ابراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤيةُ من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أنّ اللَّه لا يُرى فقد كفر باللَّه، وكذّب بالقرآن، وردّ على اللَّه أمره، يستتاب فإن تاب وإلّا قُتل ....

تحليل لهذه الفتيا:

1- إنّ هذه الفتوى لا تصدر عمّن يجمع بين الرواية والدراية، وإنّما متفرّعة على القول بأنّ اللَّه مستقرّ على عرشه فوق السماوات، وأنّه ينزل في آخر كلّ ليلة نزول الخطيب من درجات منبره (1)، وأنّ العرش تحته سبحانه يَئِط أَطيط الرحل تحت الراكب (2)، ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول:

بل عطّلوا منه السماوات العُلى والعرشُ أخلَوهُ من الرحمان (3)

ومثل تلك العقيدة تنتج أنّ اللَّه تعالى يُرى كالبدر يوم القيامة، والرؤية لا تنفكّ عن الجهة والمكان، تعالى عن ذلك كلّه.


1- نقله وسمعه السياح الطائر الصيت ابن بطوطة عن ابن تيمية. لاحظ رحلته: 113 ط دارالكتب العلمية.
2- أحمد بن حنبل، السنّة: 80.
3- من قصيدة ابن زفيل النونية، والمراد منه هو ابن القيم، لاحظ السيف الصقيل للسبكي.

ص:116

2- إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيّته سبحانه ورسالة النبي صلى الله عليه و آله، ولم يُرَ أنّ النبي الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك، مثل رؤية اللَّه وما شابهه، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه أنّ الإسلام بني على خمس، وليس فيه شي ء من الإقرار بالرؤية، وهل النبي ترك ما هو مقوّم الايمان والإسلام.

3- إنّ الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلّمين والمفسّرين، وكلّ طائفة تمسّكت بلفيف من الآيات، فتمسّك المثبتُ بقوله سبحانه: «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» وتمسّك النافي بقوله سبحانه: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

فكيف يكون إنكارُ النافي ردّاً للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت ردّاً له؟

فإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفاً لعقيدته، فكيف لا يسوّغ لطائفة أُخرى؟

وليست رؤية اللَّه يوم القيامة من الأُمور الضرورية التي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن، بل كلّ طائفة تقبل برحابة صدر المصدرين الرئيسيين أعني الكتاب والسنّة، ولكن تناقش في دلالتهما على ما تدّعيه الطائفة الأُخرى، أو تناقش سند الرواية وتقول: إنّ القولَ بالرؤية عقيدة موروثة من اليهود والنصارى، أعداء الدين، وقد دسّوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين، فلم يزل مسلمة اليهود والنصارى يتحيّنون الفرص لتفريق كلمة المسلمين وتشويه تعاليم هذا الدين، حتى تذرّعوا بعد وفاة النبي بشتّى الوسائل إلى بذر بذور الفساد،

ص:117

فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان.

4- إنّ الاعتقاد بشي ء من الأُمور من الظواهر الروحيّة لا تنشأ جذوره في النفس إلّابعد تحقّق مبادئ ومقدّمات توجد العقيدة، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيف السيف، بدل أنْ يقول: الدراسة الدراسة، الحوار الحوار.

أليس شعار «السيف السيف» ينمُّ عن طبيعة عدوانيّة قاسية، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟ وأنا أجلّ أمام دار الهجرة عن هذه الكلمة.

5- إنّ مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلّاعلى نقول وفتاوى ذكرها ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» دون أنْ يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة، أو يناقش المسألة في ضوء السنّة.

فما أرخص مهمّة الإفتاء ومؤهّلات المفتي في الديار حيث يكتفي في تكفير نصف الأُمّة بالرجوع إلى كتاب ابن القيم فقط.

وفي الختام، أنّ ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية، فإنّ نفي الرؤية شعار أئمة أهل البيت، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبه وكلماته قبل أن يتولّد الجهم وأذنابه، ولأجل ذلك اشتهر: «العدل والتنزيه علويّان، والجبر والتشبيه أُمويّان».

الخاتمة:

لقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها، وهي أصفى من أنْ تُكدِّر صفوها الشُبه، ومن قرأ فصول هذا الكتاب بامعان وتأمُّل لوقف على أنّ

ص:118

الحقّ مع النافين للرؤية وأنّه ليس للمثبتين دليل لا عقلي ولا نقلي.

أمّا العقل: فهو مخالف مع القول بالرؤية، فلا يجتمع التنزيه من الجهة مع القول بالرؤية، كما لا تنفكّ الإحاطة بالربّ بعضاً أو كلًّا عن القول بها.

وأمّا النقل: فليس إلّاظهورات بدائية تزول بعد التأمّل.

غير أنّ هناك مطالب متفرّقة لا يجمعها فصل واحد نشير إليها، منفصلة عمّا مضى من البحث:

الأوّل: أنّ أكثر من طرح مسألة الرؤية فإنّما بحث عنها بدافع روحي، وهو إثبات عقيدته والتركيز على نحلة طائفته، ولذلك ربّما انتهى البحث والدراسة عند بعضهم إلى الخروج عن الأدب الإسلامي.

وهذا هو العلّامة الزمخشري يُشبّه أهل الحديث والحنابلة القائلين بالرؤية بما في شعره ويقول:

جَماعةٌ سمُّوا هواهم سنةً وجماعةٌ حمر لعمري مؤكفة

قد شبّهوه بخَلْقِهِ وتخوّفوا شنعَ الورى وتستّروا بالبَلْكَفَة (1)

إنّ ما ذكره في البيت الثاني وإن كان حقّاً فإنّ القول بالرؤية لا ينفكّ عن التجسيم والتشبيه، والقول بأنّه جسم بلا كيف أو أنّه يُرى بلا كيف مهزلة لا قيمة لها، لما عرفت من أنّ الكيفيّة محقّقة لمفهوم الرؤية بالبصر، كما أنّها محقّقة لمفهوم اليد والرِجل، فاليد بالمعنى اللغوي بلا كيفية أشبه بأسد لا رأس له ولا بطن ولا ذنب.


1- الكشاف 1: 576 ط مصر، في تفسير قوله: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا».

ص:119

ولكن بيته الأوّل لا يناسب أدب الزمخشري الذي تربّى في أحضان الإسلام والمسلمين وخالط القرآن جسمه وروحه.

ولمّا أثار هذا الشعر حفيظة الأشاعرة وأهل الحديث قابلوه بمثل ما قال، فقد قال أحمد بن المنير الاسكندري في حاشيته على الكشّاف باسم الانتصاف:

وجماعة كفروا برؤية ربّهم حقّاً ووَعْدُ اللَّه ما لن يَخلُفُه

وتلقَّبُوا عدليّةً قُلنا أجل عَدَلوا بربّهمُ فحسبُهُم سَفَه

وتلقَّبوا الناجينَ كلَّا إنّهُم إنْ لم يكونُوا في لَظى فَعَلى شَفَه

إنّ البادي وإن كان أظلم ولكنّهما كليهما خرجا عن مقتضى الأدب الإسلامي، فالمسلم مادام له حجّة على عقيدته ولم يكن مقصراً في سلوكها لا يُحكم عليه بشي ء من الكفر والفسق ولا العقاب ولا العذاب.

وقد نصره تاج الدين السبكي بقوله:

عجباً لقوم ظالمين تلقّبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه

قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات اللَّه مع نفي الصفه

وتلقّبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربّهم فحسبهم سفه (1)

فيا للَّه ماذا يعني تاجُ الدين السبكي من قوله: تعطيل الذات مع نفي الصفة، فإنّ أحداً من المسلمين لا يعطل الذات عن الوصف بالعلم والقدرة والحياة والسمع، نعم إن عنى من تعطيل الذات نفي وصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية بمعانيها اللغوية، كاليد والرجل والنزول


1- الآلوسي، روح المعاني 9: 52.

ص:120

ووضع القدم في الجحيم، فإنّ هذا ليس تعطيلًا، بل مرجعه إلى التنزيه مع عدم التعطيل بجعلها كناية عن المعاني الأُخَر، تبعاً لأُسلوب الفصحاء والبلغاء والذكر الحكيم، كلام فصيح وبليغ، ليس فوقه شي ء فلا يعدّ مثل ذلك تعطيلًا، نعم، من يحاول وصفه سبحانه بهذه الصفات بمعانيها اللغوية، ويقول: إنّ للَّه تبارك وتعالى يداً ورجلًا ونزولًا وحركةً بالمعنى الحقيقي ولكن لا تُعرَف كيفيتُها، يحاول الجمع بين المتضادّين، فإنّ مقتضى الحمل على المعاني اللغوية سيادة تلك المعاني على موردها، ومقتضى نفي الكيفية نفي معانيها اللغوية، فكيف يعدّون أنفسهم من المثبتين وأهل التنزيه من المعطلة.

ولا يقاس ذلك بوصفه سبحانه بالعلم والقدرة مع عدم العلم بالكيفية، لأنّ الكيفية فيهما ليست مقوّمة لواقعهما، فالعلم بمعنى انكشاف الواقع، وأما كونه عَرَضاً أو جوهراً حالًّا أو محلًّا فليست مقومة لمفهومه حتى يرجع نفي الكيفية إلى نفي واقع العلم، وهذا بخلاف اليد، فإنّها بلا كيفية ليست يداً لغة.

وأظنّ أنّه لو انعقد مؤتمر علمي في جوٍّ هادئ واستعدّت الطائفتان للتأمُّل في براهين النافين والمثبتين لقلّ الخلاف وتقاربت الطائفتان.

نعم، إنّ خلافاً دام قروناً لا ينتهي بأُسبوع أو شهر أو بعقد مؤتمر أو مؤتمرين ولكن الرجاء تقريب الخطى وعدم تكفير إحدى الطائفتين للطائفة الأُخرى.

أوَليس الأولى لنا ألّا نُقسّم رحمة ربّنا وعذابه وجحيمه بيننا كما

ص:121

قسّمه الاسكندري في تعليقته على الكشّاف، ونتركه إلى اللَّه سبحانه فهو أعلم بمن هو في لظى أو شفه منه، أو قريب من الجنّة: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف/ 32).

*** الثاني: إنّ أكثر الباحثين في الرؤية يبحثون في مفهوم الرؤية لغةً، ويحشدون كلمات أهل اللغة من القدامى والجدد، كما أنّهم يبحثون في واقع الرؤية علمياً، وهل هي بسقوط الشعاع من العين على الأشياء أو بالعكس، مع أنّا في غنى عن هذه المباحث، إذْ ليس البحث في المقام عن لغة الرؤية ولا في واقعها العلمي، وإنّما البحث في أمر اختلفت فيه كلمة الأُمّة، ألا وهو رؤية اللَّه تعالى بالعين الآخرة، وليس البحث في هذا الاطار متوقفاً على دراسة مفهوم الرؤية وواقعها، وليس مفهومها أمراً مبهماً حتى نستمدّ في تفسيرها من كتب اللغة.

وإن شئت قلت: إنّ البحث كلامي مركّز على إمكان رؤية اللَّه بالعين في الآخرة وعدمه.

نعم، من أراد الاستدلال على الجواز ببعض الأحاديث الماضية من أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة ... وشككنا في معنى الرؤية، كان البحث عن مفهومها أمراً صحيحاً، وقد سبق منّا أنّ محلّ النزاع هو إمكان الرؤية بالعين التي نرى بها الأشياء في الدنيا، وأمّا الرؤية بحاسّة خامسة أو بالقلب أو بالرؤيا فليس مطروحاً في المقام، ولذلك استغنينا عن نقل

ص:122

كلمات أصحاب المعاجم كالعين للخليل، والجمهرة لابن دُريد، والمقاييس لابن فارس، واللسان لابن منظور، والقاموس للفيروز آبادي وغيرهم.

*** الثالث: لقد أخذنا على عاتقنا التمسّك بالأدب الإسلامي في الدراسة والتحليل، ولكن ربّ حديثٍ يسمعه الإنسان من آخر ربّما يجرُّه إلى القسوة أو التجرؤ على المقابل، وبدوري لما كنت أتفحّص الكتب والتفاسير حولَ المسألة رأيت أُموراً من بعض المثبتين أشبه بالمهزلة، مع أنّ القائل يُعدّ من المفسّرين الكبار ويُكال له بصاع كبير، وإن كنت في ريب ممّا قلنا فاستمع إلى قول الآلوسي:

قال: روى الدار قطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه و آله: «رأيت ربّي في أحسن صورة»، ومن الناس من حملها على الرؤية المنامية، وإذا صحّ هذا الحمل فأنا وللَّه الحمد قد رأيتُ ربّي مناماً ثلاث مرّات، وكانت المرّة الثالثة عام 1246 ه رأيته جلّ شأنه وله من النور ما له متوجّهاً جهة المشرق وكلّمني بكلمات أنسيتُها حين استيقظت، ورأيت مرّة في منام طويل كأنّي في الجنّة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثمّ إلى مقام محمّد صلى الله عليه و آله فذهب بي إليها فرأيت ما رأيت وللَّه تعالى الفضل والمنّة (1).

نحن لا نعلّق على كلامه بشي ء سوى أنّها إمّا كانت أضغاث أحلام


1- الآلوسي، روح المعاني 9: 52.

ص:123

ليس لها شي ء من الحقيقة ولا شي ء من الواقع، أو أنّها كانت صور تفكير الرجل في يومه ونهاره حول تلك المسألة العقائدية فانعكس ما هو مخزون في نفسه على صفحات ذهنه في المنام.

أما آنَ للواعين من الأُمّة أن يُنزّهوا كتبهم من هذه الخرافات حتى لا يتّخذها المادّي الغاشم ذريعة للسخرية والتهكّم على الدين وأهله.

*** الرابع: إنّ النافين للرؤية يركّزون على الروايات المثبتة حسب ادّعائهم، ولكنّهم لا يركّزون على الروايات النافية، فإنّ هذه الروايات من غير فرق بين المثبتة والنافية وإن كانت روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد، ولكن مقتضى الانصاف الاستدلال بالرواية المخالفة أيضاً، وإليك بعض ما ورد في هذا المضمار:

1- روى البخاري في تفسير قوله «وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ» عن عبد اللَّه بن قيس أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «جنّتان من فضّة آنيتهما وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيها وما بين القوم وبين أن ينظروا إلّارداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» (1).

2- روى مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول اللَّه (ص): هل رأيت ربّك؟ قال: «نور أنا أراه؟» (2).

ودلالة الحديث على إنكار الرؤية واضحة، فإنّ الرسول ينكر الرؤية بأنّه سبحانه ليس نوراً حتى أراه.


1- البخاري، الصحيح 6: 145 تفسير سورة الرحمن رقمها 55.
2- مسلم، الصحيح 1: 111 كتاب الايمان.

ص:124

نعم، رواه مسلم بصورة أُخرى أيضاً، روى عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول اللَّه (ص) لسألته، فقال: عن أيّ شي ء كنت تسأله؟ قال: كنتُ أسأله هل رأيت ربّك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال:

«رأيتُ نوراً» (1).

ولعلّ المراد ما رأيت سبحانه وإنّما رأيت حجابه كما في الحديث التالي:

3- روى مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول اللَّه (ص) بخمس كلمات فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفّض القسط ويرفعه، يُرفعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور».

وفي رواية أبي بكر ... النار لو كشفها لأَحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه (2).

4- روى الطبري في تفسير قوله سبحانه حاكياً على لسان موسى عن ابن عباس قال: يقول: إنّا أوّل من يؤمن أنّه لا يراك شي ء من خلقك (3).

نعم، من لا يروقه قول ابن عباس من الرواة، نقله وذيّله بقوله:

يعني في الدنيا، وهذا تأويل للرواية منه.

5- روى الطبري في تفسير قوله «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» عن قتادة أنّه قال: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ...» وهو أعظم من أن


1- مسلم، الصحيح 1: 111 كتاب الايمان.
2- مسلم، الصحيح 1: 111 كتاب الايمان.
3- الطبري، التفسير 9: 39 المجلّد السادس.

ص:125

تدركه الأبصار (1).

6- روى مسروق قال: قلت لعائشة: يا أُمّ المؤمنين هل رأى محمّد ربّه، فقالت: سبحان اللَّه لقد وقف شعري ممّا قلت، ثمّ قرأت «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (2). 7- روى الشعبي قال: قالت عائشة: من قال: إنّ أحداً رأى ربّه فقد أعظم الفِرية على اللَّه، قال اللَّه: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» (3).

وأضاف الطبري وقال: قال قائل هذه المقالة معنى الادراك في هذا الموضع هو الرؤية، وأنكروا أن يكون اللَّه ليُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة (4).

ويظهر من الطبري أنّ القائلين بالرؤية حاولوا منذ زمن قديم تأويل لفظ الادراك في الآية بالاحاطة.

فقد نُقل عن عطية العوفي أنّهم ينظرون إلى اللَّه، لا تحيط أبصارُهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم فذلك قوله «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» (5).

وأنا أجلّ عطية العوفي تلميذ ابن عباس وجابر بن عبد اللَّه الأنصاري عن هذا التفسير الذي لا يوجد له أصل في اللغة، وهذه هي الكلمة الدارجة بين أهل الرجال في أصحاب الرسول، يقولون: أدركَ رسول اللَّه أو لم يُدركه، فلا يُراد من الأوّل أنّه واكب حياته منذ بعثتهِ حتى


1- الطبري، التفسير 7: 200 المجلد الخامس.
2- الطبري، التفسير 7: 200 المجلد الخامس.
3- الطبري، التفسير 7: 190 المجلد الخامس.
4- الطبري، التفسير 7: 190 المجلد الخامس.
5- الطبري، التفسير 7: 190 المجلد الخامس.

ص:126

رحيله، بل يراد منه أنّه رآه مرّة أو مرّتين، أو أياماً قلائل، وربّما يقال: إنّه أدرك رسول اللَّه وهو صبيّ فيعدّونه من الصحابة.

*** الخامس: إنّ للإمام عبده وتلميذه صاحب المنار كلمات حول الرؤية، قد حاولا بإخلاص جمع كلمة المسلمين في هذه المسألة، فمن أراد فليرجع إلى تفسيره (1)، وله كلام في تفسير قوله صلى الله عليه و آله: «لو كشفه لأَحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»، قال: والمعنى أنّ النور العظيم هو الحجاب الذي يحول بينه وبين خلقه وهو بقوّته وعظمته ملتهب كالنار، ولذلك رأى موسى عليه السلام عند ابتداء الوحي ناراً في شجرة توجه همّهُ كله إليها، فنودي الوحيُ من ورائها، وفي التوراة أنّ الجبل كان في وقت تكليم الربّ لموسى عليه السلام وايتائه الألواح مغطّى بالسحاب.

ورأى النبي الخاتم الأعظم صلى الله عليه و آله ليلة المعراج نوراً من غير نار، وربّما كان هذا أعلى، ولكنّه كان حجاباً دون الرؤية أيضاً، فقد سأله أبو ذر رضى الله عنه وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: «نوره، إنّي أراه؟» وفي رواية أُخرى: «رأيت نوراً» ومعناهما معاً رأيت نوراً منعني من رؤيته، لا أنّه تعالى نور، وأنّه لذلك لا يرى، وهذا يتلاقى ويتّفق مع قوله «حجابه نور» ولذلك جعلنا أحاديث النور شاهداً واحداً في موضوعنا، وهي تدلّ على عدم رؤية ذات اللَّه عزّ وجلّ وامتناعها (2).


1- الإمام عبده، المنار 9: 140 وما بعدها.
2- الإمام عبده، المنار 9: 190.

ص:127

السادس: إنّ القائلين بالرؤية على فرقتين: فرقة تعتمد على الأدلّة العقلية دون السمعية، وفرقة أُخرى على العكس.

فمن الأُولى سيف الدين الآمدي (551- 631) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعيّة، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين، فلا يذكر إلّا على سبيل التقريب (1).

ومن الثانية، الرازي في غير واحد من كتبه فقال: إنّ العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو السمع، وعليه الشهرستاني في نهاية الاقدام (2).

والحقّ أنّ من حاول اثبات الرؤية بالدليل العقلي فقد حرم عن نيل مرامه، فإنّ الأدلّة العقلية التي أقامتها الأشاعرة في غاية الوهن، فإنّهم استدلّوا على الجواز بوجهين: أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي وأنّه لا يترتّب على القول بالرؤية شي ء محال، والآخر يرجع إلى الجانب الايجابي وهو أنّ مصحّح الرؤية في الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق (3).

أظنّ أنّ كلّ من له أدنى معرفة بالمسائل العقلية يدرك ضعف الاستدلال، إذ كيف لا يترتّب على الرؤية بالعين تشبيه وتجسيم، مع أنّ


1- الآمدي، غاية المرام في علم الكلام: 174.
2- الرازي، معالم الدين: 67؛ والأربعون: 198؛ والمحصل: 138؛ الشهرستاني، نهاية الاقدام: 369.
3- الإمام الأشعري، اللمع: 61- 62.

ص:128

الرؤية بالمعنى الحقيقي لا تنفكّ عن الجهة للمرئي، مضافاً إلى أنّ واقع الرؤية عبارة عن انعكاس الأشعة على الأشياء، فاثبات الرؤية بلا هذه اللوازم نفي لموضوعها، وأوضح ضعفاً ما ذكره من أنّ المجوِّز للرؤية هو الوجود، وهو مشترك بين الواجب والممكن، إذ المجوّز ليس الوجود بلا قيد، بشهادة أنّ النفسيّات كالحسد والبخل والعشق والفرح لا تُرى بالعين، ورؤيتها بغيرها كحضورها عند النفس خارج عن محطّ البحث، بل المصحّح هو الوجود الواقع في إطار الجهة وطرفاً للإضافة بين العين وطرفاً للإضافة بين البصر والمبصر، ومثل ذلك يساوي الوجود الإمكاني المادي.

ولضعف هذا النوع من الاستدلال نرى أنّ الشريف الجرجاني بعدما أطال البحث حول البرهان العقلي قال: إنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر، فلنذهب إلى ما ذهب إليه الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسّك بالظواهر النقلية (1).

*** السابع: إنّ المنكرين للرؤية يفسّرون قوله سبحانه: «إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» بالانتظار، وكلامهم حقّ في الجملة، لكنّ أغلب من يذكر هذا التفسير لا يفرّق بين المعنى بالمراد الاستعمالي والمعنى بالمراد الجدّي.

وقد عرفت أنّ المعنى بالمراد الاستعمالي غير المعنى بالمراد


1- الشريف الجرجاني، شرح المواقف 8: 129.

ص:129

الجدّي، فقد أُريد من الجملة حسب الاستعمال الرؤية وأُريد منها الانتظار جدّاً، فمثلًا تقول: إنّي أنظر إلى اللَّه ثمّ إليك، فالمعنى الابتدائي هو الرؤية، ولكن المعنى الجدّي هو الانتظار.

وهناك خلط آخر في كلامهم، حيث لا يفرّقون بين النظر المستعمل المتعدّي ب «إلى» والمتعدّي بنفسه، فلذلك يستدلّون على أنّ الناظر في الآية بمعنى الانتظار بقوله تعالى: «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً» (يس/ 49) وقوله: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» (الأعراف/ 53) وقوله:

«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ» (البقرة/ 210) مع انّ الاستشهاد في غير محلّه، لأنّ كون اللفظة بمعنى الانتظار فيما إذا تعدّت بنفسها غير منكر، وإنّما البحث فيما إذا كانت متعدية ب «إلى»، فعلى ذلك يجب التركيز في اثبات كونها بمعنى الانتظار على الآيات والأشعار التي استعملت وتعدّت ب «إلى» وأُريد بها الانتظار.

*** الثامن: يقع بعض السَطَحيين في تفسير المقطع الأوّل من آيات سورة «النجم» (1- 18) في خطأين: خطأ في إثبات الجهة للَّه سبحانه، وخطأ في إثبات الرؤية للنبي، وإليك الآيات، ثمّ الإشارة إلى مواضع الاشتباه، أعني قوله سبحانه:

«وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى أَفَتَمارُونَهُ عَلَى مَا يَرى

ص:130

وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» (النجم/ 1- 18).

إنّ الجمل التالية: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى» إلى قوله: «فَأَوْحى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى» يؤكّد على شدّة اقتراب النبي من جبرئيل، أي على بُعد ما بين القوسين أو أدنى، وهو تعبير عن منتهى القرب.

والضمائر كلُّها إلّاالمجرور في «إِلَى عَبْدِهِ» يرجع إلى جبرئيل الذي كُني عنه بشديد القوى، وأين هو من قربه صلى الله عليه و آله منه سبحانه.

ومن التفسير الخاطئ هو إرجاع الضمير في قولنا ثمّ دنا فتدلّى إلى النبي، وتفسير الآية بقرب النبي من اللَّه على أقرب ما يمكن، وبالتالي تصوّر أنّ للَّه جهةً وقرباً وبعداً، وبذلك يتّضح خطأ مَنْ فسّر الآية على نحو أثبت للَّه جهة وقرباً.

*** إنّ المرئي في قوله: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى» حسب الآيات المتقدّمة هو الأُفق الأعلى، والدنوّ والتدلّي والوحي، وحسب الآية اللّاحقة هو آيات الربّ حيث قال: «لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى» ومن تلك الآيات هو جبرئيل الذي هو شديد القوى، وأين الآية من الدلالة على رؤية النبي ربّه.

ومن التفسير الخاطئ جعل المرئي في قوله: «مَا رَأى» هو الربّ، ومن حسن الحظّ أنّ السنّة أيضاً تفسّر الآية برؤية جبرئيل.

عن مسروق قال: كنت متّكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث

ص:131

من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على اللَّه الفِرية، قلت: ما هُنّ؟ قالت:

من زعم أنّ محمّداً (ص) رأى ربّه فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متّكئاً فجلست، فقلت: يا أُمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني! ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: «وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» و «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى»؟ فقالت:

أنا أوّل هذه الأُمّة سأل عن ذلك رسول اللَّه (ص) فقال: «إنّما هو جبرئيل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرّتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض»، فقالت: أوَلَمْ تسمع أنّ اللَّه يقول: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»؟ أوَلم تسمع أنّ اللَّه يقول: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّه إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل رَسُولًا فَيُوحِي بِإذْنهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»؟ قالت: ومن زعم أنّ رسول اللَّه (ص) كتم شيئاً من كتاب اللَّه فقد أعظم على اللَّه الفرية واللَّه يقول: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» قالت: ومن زعم أنّه يُخبر بما يكون في غد فقد أعظم على اللَّه الفرية واللَّه يقول: «قُلْ لَايَعْلَمُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهَ» (1).

*** التاسع: إنّ للشيخ الجصّاص الحنفي (م/ 370) كلاماً رائعاً في تفسير قوله سبحانه: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارَ» وقد فسّر الروايات الدالّة على الرؤية بالعلم الضروري الذي لا يشوبه شبهة ولا تُعرض فيه الشكوك،


1- النووي، شرح صحيح مسلم 3: 8.

ص:132

ولأجل ايقاف القارئ على كلام ذلك المفسّر الكبير الذي هو من السلف الصالح نذكر نصّ كلامه:

قوله تعالى: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ» يقال: إنّ الادراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام، أي لحق حال النُضْج، وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلامُ إذا لحق حال الرجال، وإدراك البصر للشي ء لحوقه له برؤيته إيّاه، لأنّه لا خلاف بين أهل اللغة إنْ قال القائل أدركت ببصري شخصاً معناه: رأيته ببصري، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة، لأنّ البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له، فقوله تعالى: «لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ» معناه: لا تراه الأبصار، وهذا بمدح ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ» وما تمدح اللَّه بنفيه عن نفسه فإنّ إثبات ضدّه ذَمّ ونَقْص فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصِفة بلا تأخذه سِنَة ولا نوم لم يبطل إلّاإلى صفة نقص، فلمّا تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضدّه ونقيضه بحال، إذكان فيه إثبات صفة نقص.

ولا يجوز أنْ يكون مخصوصاً بقوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» لأنّ النظر محتمل لمعان، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلمّا كان ذلك محتملًا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المرويّة في الرؤية إنّما المراد بها العلم لو صحّت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، لأنّ الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة (1).


1- محمّد بن علي الرازي الجصّاص، أحكام القرآن 3: 4.

ص:133

العاشر: إنّ من كتبَ حول الرؤية من إخواننا أهل السنة- من غير فرق بين النافي والمثبت- فقد دقّ كلّ باب، ورجع إلى كلّ صحابي وتابعي، ومتكلّم وفيلسوف، ولكن لم يدقّ باب أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفي مقدّمتهم الإمام علي عليه السلام باب علم النبي وأقضى الأُمّة وأحدُ الثقلين اللذين تركهما النبي صلى الله عليه و آله لهداية الأُمّة، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة وإمكان الرؤية، فبلّغ رسالات اللَّه التي تعلّمها في أحضان النبي صلى الله عليه و آله بأبلغ بيان.

ولو ذَهَبتْ العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فقد أخذوا منه، وتعلّمت من منهجه، فبلغت الغاية في التنزيه حسب ارشاداته، كما صرّح بذلك غير واحد من أئمة العدلية، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه عليه السلام في نهج البلاغة، وإلى كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

ص:134

فهرس الموضوعات

تمهيد

سمات العقيدة الإسلاميّة 7

1- سهولة العقيدة: 7

2- الاذعان في العقيدة والتعبّد في الأحكام: 10

3- خضوعها للبرهان العقلي: 10

1- حقيقة التجسيم والتشبيه والجهة والرؤية 15

كعب الأحبار وتركيزه على التجسيم والرؤية: 21

الرؤية في كتب العهدين: 23

الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا: 26

الرؤية في كلمات الإمام علي عليه السلام: 31

2- الرؤية في منطق العلم والعقل 34

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية: 37

1- الرؤية بلا كيف: 38

ص:135

2- اختلاف الأحكام باختلاف الظروف: 39

3- عدم الاكتراث باثبات الجهة: 40

3- موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية 43

المحاولة الأُولى: 49

المحاولة الثانية: 50

دراسة أدلة النافين

4- الآية الأُولى: لا تدركه الأبصار 53

المرحلة الأُولى: في بيان مفهوم الدرك لغة: 53

المرحلة الثانية: في بيان مفهوم الآيتين: 54

الشبهة الأُولى: 56

الشبهة الثانية: 56

الشبهة الثالثة: الإدراك هو الاحاطة 57

5- الآية الثانية: ولا يحيطون به علماً 62

معنى الآية 62

6- الآية الثالثة: قال لن تراني 64

المفهوم الصحيح للآية: 64

1- الاجابة بالنفي المؤبد: 65

2- تعليق الرؤية على أمر غير واقع: 69

3- تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية: 70

4- توبته لأجل طلب الرؤية: 72

شبهة المخالفين: 72

الشبهة الأُولى: لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم عليه السلام 73

الأوّل: سياق الآيات ليس دليلًا قطعياً 74

الثاني: استقلال السؤالين غير معقول 75

الشبهة الثانية: تجلّيه على الجبل 81

ص:136

دراسة أدلة المثبتين

7- الآية الأُولى: إلى ربّها ناظرة 83

8- خمس آيات على طاولة التفسير 89

الآية الأُولى: أمره سبحانه موسى بالشكر له 89

الآية الثانية: الحسنى والزيادة 92

الآية الثالثة: رؤية الملِك 94

الآية الرابعة: آيات اللقاء 95

الآية الخامسة: آية الحَجْب 97

9- رؤية اللَّه في الأحاديث النبويّة 100

تحليل الحديث 103

رؤية اللَّه في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام 106

10- الرؤية القلبيّة 109

تحليل لهذه الفتيا: 115

الخاتمة: 117

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.